dracola
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

هرمينوطيقا الذات

اذهب الى الأسفل

هرمينوطيقا الذات Empty هرمينوطيقا الذات

مُساهمة  dracola الخميس يناير 28, 2010 1:22 pm

هرمينوطيقا الذات

من أول ثقافة العصور القديمة الى آخرها من السهل أن نجد شهادات على الأهمية المعطاة ل"لانهمام بالذات"وربطها بموضوع معرفة الذات." [1] ميشيل فوكو، درس هرمينوطيقا الذات.
استهلال:
لقد اعتقدت الفلسفة لفترة طويلة أن جوهر الإنسان هو نفس ناطقة وأن التفكير والإرادة والحرية هي أفعال للنفس تتعالى بها على الجسد وتتحكم عن طريقها في الانفعالات وفي أفعال الانسان وأقواله وقد تصورت أن الفكر الواعي هو كل الفكر وأن الذات العارفة هي كل الذات لاسيما وأن الحواس تخدع المرء والغرائز مثلت عقبة أمام اختيار الفعل الارادي الحر وأن الجنون عدو العقل والخيال كله أباطيل وتحريف للحقائق.
ولقد تعززت مثل هذه الاعتقادات عندما ركزت الفلسفة الحديثة نفسها على أرضية ميتافيزيقية صلبة وشكلت صورة دغمائية للفكر تؤمن ببداهة الكوجيتو وصدقية الضمان الإلهي وأخلاقية العقل واستقامة الإرادة وتحمل كل كائن المسؤولية الوجودية وتعتبر مشروع اثبات الانية أمرا ممكنا عن طريق المعرفة.
لكن مع ظهور فلسفة الرجة وصعود أسهم كاشفي الأقنعة وأقطاب الظنة خاصة مع جنيالوجيا نيتشه والاقتصاد السياسي عند ماركس وعلم التحليل النفسي عند فرويد بدأت الحقيقة تظهر ووقع اكتشاف "مشكل زيف الوعي والوعي باعتباره زيفا" واتضح أن علاقة الانية بالغيرية هي غامضة غموض العلاقة بين الوجود واللاوجود. على هذا النحو تبين أن الوعي لا يمثل إلا القشرة الظاهرية من الشخصية الإنسانية وأن الذات ليست قط من يفعل بل هي وهم خالص وعالمها الباطني مليء بالسراب وبالأنوار الخادعة والأنا أصبح مجرد خرافة ووهما وتلاعبا بالألفاظ وأن الوعي بالحرية يخفي اللاوعي بالتبعية وأن الإنسان ربما لا يكون مسؤولا عن أفعاله طالما أنه مضطهد من قبل أسياد ثلاثة هي متطلبات الواقع الخارجي ورغبات الهُوَ وأوامر الأنا الأعلى وطالما تتنازعه رغبتان متناقضتان الأولى هي التناتوس وتجعله يريد العدم ويحبذ الفناء والثانية هي الايروس وتجعله يريد الوجود ويقبل على الحياة.
بيد أن الأسئلة التي تطرح الآن وهنا هي : ما المقصود بالأنا؟ كيف تم اكتشاف الذات؟ ما الفرق بين الذات والأنا؟ وما المقصود بالذات الواعية بجميع جوانب وجودها؟ كيف كانت حال الذات بعد ظهور فلسفة الرجة؟ وماهي البراهين التي قدمها كاشفو الأقنعة لثبتوا تبعية الذات وتشققها؟ وما مكانة الوعي على إثر هذا الاكتشاف؟ هل أرست مدرسة الارتياب ثورة في مستوى تعريف كينونة الإنسان؟ ماذا يصنع المرء بنفسه؟ ولأي عمل يخضع نفسه؟ كيف يحكم على أعمال يقوم بها بنفسه ويكون فيها هدفا ومجالا وأداة ؟ ماهو دور الوسيط اللغوي في اكتشاف المرء لنفسه؟ وكيف تكون اللغة هي اطار تحقق الذاتية؟
تتمثل خطة هذا العمل في تقسيم مسيرة التفكير في هذه الإشكالية إلى ثلاثة لحظات:
لحظة مواجهة الذات لذاتها: حيث الذات تجوهرت بالتخلص من كيفياتها وجعلت هويتها تتشكل عن طريق التطابق مع الأنا الواعي وتتميز عن العالم بالتعالي عليه والنظر إليه من موقع منفصل.
لحظة مواجهة الذات مع العالم:حيث الذات لم تعد الأنا أفكر بل انخرطت في العالم عن التجربة المعيشة وصارت تعرف بالفعل حيث تفتح نوافذها وأبوابها على التاريخ والاقتصاد والحياة العضوية .
لحظة مواجهة الذات للآخر عن طريق الوسيط اللغوي وحيث "الذات ليست في مواجهة ذاتها المتماهية فحسب بل هي أيضا في مواجهة الغير ولا تكتمل كينونتها إلا في ضوء العلاقة مع الغيرية".
ما نراهن عليه هو تفادي أن تكون نظرة الإنسان إلى نفسه واضحة وبديهية وأن الذات قادرة على معرفة ذاتها منذ البدء والانتباه إلى غموض الكينونة البشرية وحاجتها إلى وساطة الرموز والثقافة والنصوص من أجل الاعتبار والتدرب وإعادة هيكلة ذاتها.
1- الكوجيتو المُثبَت:
" أنا موجود الآن وأعرف أنني لست سبب وجودي ولا سبب بقائي في الوجود وانتقالي من لحظة حاضرة إلى لحظة موالية ينبغي أن يكون له سبب وهذا هو الكائن القادر على إيجادي وحفظي." ديكارت
ما من شك أن الوعي له قيمة في حياة الإنسان لأنه يرتقي به فوق مرتبة الحيوان ويحقق إنسانيته وحريته ولكن ما من شك أيضا أن ماهية الإنسان نفسها في حاجة إلى الوعي بها والى تقصي حقيقتها وفهم جوهرها ومكوناتها والإحاطة بأعراضها وتتبع أقوالها وأفكارها وأفعالها. لكن إذا حاولنا انجاز رحلة الوعي الانساني فإننا نواجه صعوبات جمة وتثار أمامنا عدة مفارقات من جهة الذات وعلاقتها بالعالم وبالآخر. أولا ينبغي أن نلاحظ أن علاقة الإنسان بالعالم يسودها التعقد والتشابك وتقتضي الفهم والتدبر خاصة وأن الإنسان ابن الطبيعة الثائر يوجد في الكون وفي مخيلته تصورا لعالم آخر. ثانيا تتميز العلاقة بين الأنا والآخر بالتوتر والتصادم والمراوحة بين الاطمئنان من المثيل والشبيه والنفور من الغريب والمغاير وبين تقديس قيمة الصداقة والتعايش والانخراط في العداوة وكراهية الآخر. من ناحية ثالثة يتبين أن الإنسان نفسه كائن ملتبس يعيش المفارقة بين أن يكون لذاته وأن يكون لغيره وبين أن يوجد مثل بقية الموجودات وبين أن يستقل بنفسه ويرتقي في سلم الوجود نحو الأفضل. ومثلما صرح ريكور نقلا عن باسكال :"إن الإنسان هو كائن بسيط في حيويته معقد في إنسانيته" .
يعيش الإنسان التناقض الواضح للعيان بين انتمائه إلى مملكة الطبيعة وما يترتب عنه من خضوع لمنطق الضرورة وتقيد بقانون الغريزة والحاجة وانتمائه من جهة ثانية إلى مملكة الثقافة والروح وما يترتب عنه من إحساسه بالحرية والكرامة والطموح نحو تجاوز كل المضيقات والتحديدات وكما يقول التوحيدي:" فهو يقاد بالطبيعة إلى الموت وبالعقل إلى الحياة". إن حل هذه الصعوبات اقتضى حسم الموقف النظري وانتهاء إلى تعريف الإنسان على أنه كمائن الوعي وأن الوعي هو الإدراك العقلي وأن جوهر الإنسان هو النفس وأن الذات هي الأنا العارفة ولتهيئة هذه الأرضية انتهجت الفلسفة منهج التعالي عن الجسد والانغلاق عن العالم وإقصاء الآخر والنظر إليه كمثيل.
هكذا تقوم جوهرية الأنا على الوعي ويقوم الوعي على فهم النفس لنفسها بمعزل عن الحواس والخيال والنفس مرادفة للروح وهي جوهر وقوة ومصدر وعي الإنسان بانيته أما الوعي فيقيد لغة الاستيعاب والامتلاء والحضور التام للذات لدى ذاتها واصطلاحا يعني الإدراك والمعرفة والتطابق التام بين الذات وذاتها وبين العقل والوجود. وقد عبر ديكارت عن هذا الموقف الفلسفي بقوله:"إنني جوهر كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم إلا على الفكر" وكان الكندي قد انطلق من قاعدة فلسفية هامة في النظر إلى الإنسان تتمثل في ما يلي:"إنا نحن ما نحن بأنفسنا لا بأجسامنا وأنفسنا ذاتية لنا أما أجسامنا فآلات لأنفسنا".
إن الموقف النظري الذي تدور حوله الذات المتعالية هو الكوجيتو المبجل الذي يشدد على الذات وقدرتها على تأسيس ذاتها بذاتها بالاستناد إلى يقينية مطلقة وتعظيم الأنا إلى أقصى الدرجات والادعاء بأنه مصدر الحقيقة واليقين ويصلح لكي يكون مبدأ أول في الفلسفة انتصر في معركته على الطبيعة ويقوم بتفسير العالم وتمثل المواضيع الخارجية في شكل صورة ذهنية. حول هذا الأمر يقول ريكور:" والحقيقة هي أن هذا الطموح في التأسيس النهائي قد تثبت بطريقة جذرية من ديكارت إلى كانط ثم من كانط إلى فيخته وأخيرا مع هوسرل في كتابه التأملات الديكارتية ". [2]
لكن هذا الإقرار الفلسفي يؤدي الى اثبات الانية عن طرق الكوجيتو والى القول بأن الأنا هو الذات وان الوعي هو كل الذات وأن الذات واعية بجميع جوانب وجودها وأن الوعي واضح بما فيه الكفاية وقادر على بلوغ درجة مطلق فيه المثير من الغرور والادعاء. لكن ماهو موضوع الوعي؟ وكيف يتصرف عندما يكون بحضرة الآخر؟ وماهو دور الجسد في تجربة الوجود في العالم؟ وما العمل لو بين العلم أن ما يبطنه المرء هو أكثر مما يظهره؟ كيف كان هيجل هو أول فيلسوف غربي ميز بين الأنا والذات؟
2- الكوجيتو المتصدع:
"كيف قامت الذات في لحظات مختلفة وفي سياقات مؤسسية مختلفة كموضوع ممكن للمعرفة مرغوب فيه بل وضروري؟ " [3]
يرى الفكر الفلسفي أن هناك تعارض بين مفهومي الوعي واللاوعي طالما أن الوعي هو الحضور التام لذات لدى ذاتها أي المعرفة المباشرة للفكر بحالاته وأفعاله واللاوعي يمثل الجانب اللاشعوري الليلي للشخصية الإنسانية غير أن المزية الكبرى التي قدمتها فلسفة الرجة هي البرهنة العملية على صحة فرضية اللاشعور إذ من الحمق أن يواصل الإنسان المعاصر حسب ما بين نيتشه العيش داخل أسطورة أنشأها هو بنفسه فالوعي أسطورة ينتجها الفرد للمحافظة على حياته وقيمة أخلاقية تهدف غلى تقليص إرادة الحياة وتعمل على حفظ الرغبة وتعليبها تطمس وتتنكر للجسد وتخفي شيئا أكثر أصالة منها هي الرغبة بهذا المنى ليس سوى وهما يطفو على السطح أي مجرد مقولة لغوية سطحية تخفي شيئا أكثر جوهرية منها وهو الجسد وإن الأنا مشروطة بالجسد وبالإرادة الحية والعقل لا يعدو أن يكون سوى وسيلة الفرد إلى البقاء أي أداة للمحافظة على الإستمرار في الحياة وسلاح البشر الأقل صلابة فالذات تطور قواها الرئيسية عبر الإخفاء والتمويه والمراوغة وتتحول من ذات مريدة وسيدة إلى ذات مغلولة مشتته لا وحدة فيها ،فماهي القيود التي تتحكم في الذات حسب فرويد ؟ وكيف يبين هذا الأخير أن الأنا ليس سيدا حتى في بيته؟
إننا مع فرويد نرصد شيئا لا مرئيا نتابعه من خلال آثاره وهو اللاشعور إذ إن التحليل النفسي الذي أسسه فرويد ليس علما فقط أو نظرية حول الطفولة والمرض العقلي بل نظرية شاملة حول الإنسان تثبت وجود معنى لاواعي لكلام الفرد ويخضع الإنسان لرغبات يعسر كبحها وبتبعية الإنسان لطفولته وبتلازم العقل مع الجنون ونقر بأن معطيات الشعور تتخللها ثغرات وهفوات وبأن اللاشعور هو رغبات مكبوتة ومدفونة في أعماق سراديب الذات بنيته تتكون من وحدات ثلاث : الأنا-الأنا الأعلى- والهو وترزح تحت وطأة أسياد ثلاث وهم الأنا الأعلى والهو والواقع الخارجي يعمل الأنا على إرضائهم جميعا والتوفيق بين مطالبهم لكنه لا يستطيع فيلجأ إلى الإخفاء والمراوغة والتصنع وبهذا التمشي ينشأ فرويد ما يمكن تسميته بالجغرافيا النفسية ويؤكد أن الذات لم تعد سيدة بل أصبحت حلبة صراع وخادمة لأسياد ثلاث قساة وأسيرة الطفولة والماضي ويرى بأن موقع اللاوعي هو الجهاز النفسي ذاته وحقيقته نفسها وكل ماهو مرموز ومتخيل كالحلم والفن ويتبين أن الإنسان كائن متستر يخفي حقيقته اللاواعية: أي ماهيته ليست ما يظهر أو يتجلى أو يطفو على السطح بل هي ما يختفي في الباطن في الدوافع والبواعث الخفية والمتسترة في السراديب المظلمة.
إن اكتشاف اللاوعي كان بمثابة الطعنة أو الجرح الذي وجهه التحليل النفسي للإنسانية وإدانة للكوجيتو الديكارتي والأنا أفكر الكانطي وتشكيك في صحة ويقينية الوعي الإنساني فالوعي المباشر عاجز انطلاقا من ذاته عن التواصل إلى فهم ما ينتجه إنه ليس فقط وعي بشيء ما أو ما يستوجب وعي بالآخر بل غنه مرتبط مباشرة وبصفة وثيقة بالنشاط المادي للبشر طالما أن كينونة الأفراد ترتبط بالظروف المادية لانتاجاتهم ونظرا لأنه "ليس الوعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي للبشر بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم" مثلما بين ذلك كارل ماركس الذي أنهى الاعتقاد الهيجلي القائل بتأثير الفكر في الواقع وبإمكانية وصول الإنسان للوعي المطلق ليقر بوجود مشكل جديد وهو"زيف الوعي والوعي باعتباره زيفا" وبهذا المعنى أدى اكتشاف اللاشعور إلى تراجع الذات عن أنانيتها المفرطة والسذاجة وخروجها من مركزيتها وموقع السيادة والبرجعاجية التي كانت في الماضي تحتله على الصعيد المعرفي الأنطولوجي في الفلسفة الكلاسيكية لتصبح مجرد ضعف في قلب الوجود تتسم بالهشاشة والتمزق وتتصف بالتباعد بين ما هو لذاته وما هو في ذاته ولتضحى مشقوقة منكسرة من الداخل. ألا يستقيم قول الفارابي عندئذ من زمان من أن «الإنسان كثيرا ما تتبع أفعاله تخيلاته أكثر مما تتبع ظنه أو عمله…" [4] ؟
هذا الموقف النظري يفكك الذات ويقول بموتها وينتهي إلى الكوجيتو الجريح- الذي يخلع الأنا من عرشه ويعلن نهاية المؤلف لصالح البنية خاصة عند فوكو وألتيسور ودريدا تحت تأثير هيمنة الوضعية. هنا يقول ريكور:"إن الكوجيتو المحطم إن مثل هذا القول يمكن أن يكون شعار ارث فلسفي بالطبع لم يمتد ويستمر مثل ارث الكوجيتو غير أن حدته تبلغ ذروتها مع نيتشه جاعلة من هذا الأخير المناوئ الأبرز لديكارت". [5]
فكيف سيعمل ريكور في إطار أنثربولوجيا فلسفية جديدة على بناء تصور جديد للذات مستفيدا من المزايا الكبيرة التي وفرتها فلسفة الرجة؟
3- الكوجيتو الهرمينوطيقي:
" على الأنا الأناني أن يذوي لتتولد الذات صنيع القراءة." [6]
يرى ريكور انطلاقا من اشتغاله الفنومينولوجي الابستيمولوجي المتأمل في النتائج التي توصل إليها التحليل النفسي والألسنية والرامي إلى تأسيس أنتروبولوجيا فلسفية شاملة أنه من الخطأ الانطلاق من العقل والبعد الواعي لتعريف الإنسان أو الانطلاق من اللاشعور والمنطقة المظلمة العميقة لذات الإنسانية لتعريف الوعي والعقل لأن كل من الوعي واللاوعي ليسا مفهومين متناقضين مثلما يتصور ذلك الفكر الكلاسيكي بل هما على خلاف ذلك متلازمين ومتكاملين ويشكلان معا بعدي الذات الإنسانية طالما أن الإنسان أصبح يعرف كجدلية بين الوعي واللاوعي بين العقل والجنون بين الحرية والضرورة بين الهشاشة والمسؤولية . إن اللاوعي حسب فلسفة الرجة ليس نقيضا للوعي بل الآخر المؤسس له وليس قيمة مطلقة كما يدعي التحليل النفسي وإن الوعي ليس كما ترى الفلسفة الكلاسيكية منفصلا عن العالم ومسيطرا على حالاته وأفعاله بل إنهما حسب بول ريكور نسبيين ويخضعان للمراجعة والنقد طالما أن الإنسان كائن ذا طبيعة هشة ومندرجا في السياق الموضعي الاقتصادي وله تاريخ حافل بالرموز والمرويات الكبرى والأساطير والبنى المخفية.
"ويشير ريكور مع حنا أرندت أن:"الناس لا يولدوا من أجل أن يموتوا وإنما من أجل أن يبدعوا"، وأول ما يمكن أن يبدعوه هو ذواتهم لأن الذات هي أن أغلى شيء في الوجود ينبغي أن يحرص كل واحد على الاعتناء به. [7]
غير أنه يصعب حقيقة تجسيد المطلب الذي حاول تأسيسه ريكور حول إقامة حوار فلسفي يجمع بين الجانب النظري المعرفي والجانب العملي التطبيقي للإنسان ومقاصده الواعية وزلاته اللاواعية نظرا لأنه مطلب نظري تصوري يصعب تحقيقه عل ارض الواقع إضافة إلى أنه من الصعب إزالة التناقض الموجود بين الوعي واللاوعي وتأسيس جدلية وحوار وتكامل بينهما مثلما بين ذلك إريك فروم في كتابه "اللغة المنسية" عندما أكد أن الوعي واللاوعي يشير كليهما إلى بنيتين متناقضتين للإنسان الأولى تتميز بالفعل والنشاط واليقظة والثانية تتصف باللافعل واللانشاط والظلمة إذ الوعي دخيل متطفل على اللاوعي في حالة النوم واللانشاط واللاوعي دخيل متطفل على الوعي في حالة اليقظة والفعل .
بل إن البعض ذهب إلى حد التشكيك في وجود اللاوعي ذاته لأنه اكتشاف غير علمي يظل مجرد فرضية لا غير باعتباره حقيقة غير قابلة للبرهنة تجريبيا إذ يصرح سارتر في كتابه الوجود والعدم بأن " اللاوعي الفرويدي مجرد نية سيئة وقع تشييئها فهو أكذوبة الذات على ذاتها حتى تتمكن من الهرب منه أي من حقيقتها كحرية فاعترافها باللاوعي يخلصها من ثقل كونها حرة ومسؤولة إزاء أفعالها واختياراتها". خاصة وأن " الذات لا يمكن أن تفهم إلا عن طريق التفافي يمر بالأعمال ( الفنية الخ ) والأفعال والأدب والنظم والمؤسسات. وكل فهم ذاتي يتطلب تأويلا لنصوص أو بناءات شبيهة بالنص." [8]
لقد بينت فلسفة الرجة أن مسألة الانية محدودة من طرف اللغة والغريزة والمجتمع وبأننا لم نعد نفهم اللاوعي انطلاقا من الوعي أو المخيلة أو الحواس ولا حتى الوعي ذاته طالما أن نيتشه وماركس وفرويد اعتبروا الوعي في مجموعه وعيا مزيفا وكاذبا وأعادوا طرح مشكلة الشك الديكارتي لنقلها إلى صميم الحصن الديكارتي ذاته وحولوا الشك من مجال الأشياء الخارجية إلى مجال الوعي ذاته في حالاته وأفعاله وفرقوا بين المعنى والوعي وبين الحقيقة والقيمة وقالوا بتبعية الذات العارفة للماضي الطفولي وقاموا بكسر وحدة الذات العارفة وإذا كان ريكور نقد التناقض القائم بين ثنائية الوعي واللاوعي وشكك في النظر إليهما كمطلقين وأكد على أنهما نسبيان فإنه أبقى على انشطار الذات وتشققها ولم يحاول ردم الهوة التي تفصل بين الجانب النهاري الواعي والبعد الليلي غير الواعي وعجز عن إيجاد تصور موحد لذات يتوافق مع شعور الإنسان في تجربته الحميمية واستمراريته وتصوره لذاته كوحدة وتطابق . فهل قدر الفكر والفلسفة أن يؤمن بثنائية الوعي واللاوعي وتناقضهما وهل وجودهما مرتبط بتشكيكهما في قدرة الإنسان وثقته بنفسه ؟ أية جدلية بين العدم والوجود التي تضطلع بالذات الإنسانية؟
يبعث بول ريكور الأمل من جديد في الإنسانية ويؤكد إمكانية مصالحة الذات مع ذاتها عندما يصرح:" لا أزعم أن ذاتا تهيمن أصلا على طريقة وجودها في العالم تشترع فهما قبليا لذاتها في النص وتقرأه على النص بل أزعم أن التأويل هو العملية التي يعطي بها انكشاف أنماط جديدة من الوجود أو إذا كنت تفضل فتغنشتاين على هيدجر: صورة حياة جديدة للذات قدرة جديدة على معرفة ذاتها. فإذا كانت إحالة النص هي مشروع عالم إذا فليس القارئ من يشترع نفسه في الأساس بل يتسع القارئ في قدرته على اشتراع ذاته بتلقي نمط جديد من الوجود من النص نفسه. بهذه الطريقة يكف التملك عن الظهور بوصفه نوعا من الاستحواذ، نوعا من التشبث بالأشياء بل ينطوي بدلا من ذلك على لحظة فقدان للذات الأنانية والنرجسية. وعملية فقدان الذات هي عمل نوع من أنواع الكلية ونزع الزمانية المؤكد عليها في الإجراءات التفسيرية. وترتبط هذه الكلية بدورها بقوة انكشاف النص المتميزة عن أي نوع من الإحالة الظاهرية. ولا يدشن فهما جديدا للذات سوى التأويل الذي يذعن لأمر النص ويتبع "سهم" المغزى ويفكر استنادا إليه. وفي هذا الفهم الذاتي أود أن أعارض النفسSelf التي تنبع من فهم النص بالذاتEgo التي تدعي أنها تسبقه. والنص بقوته الكلية على كشف العالم هو الذي يعطي الذات نفسا." [9]
ما تصل إليه الأنثربولوجيا الفلسفية هو الكوجيتو الهرمينوطيقي [10] حسب عبارة المؤول جون غرايش الذي يتم تعديله واصلاحه وحيث يكون هناك انهمام غير مسبوق من طرف الذات بالذات لاسيما وأنها لم تمت ولم تستطع كل المعطيات الموضوعية أن تمحوها ولكنها في الوقت عينه لم تعد كما كانت في الماضي متمركزة على ذاتها وموحدة حول جوهرية الأنا بل تغيرت كثيرا واغتنت من الكثرة والتعدد المتعلق بالخيال والرغبة والجسد والتاريخ والطبقة والرمز.
إن الذات خرجت جريحة فقط من معاول التفكيكية بعد تخلت عن حقيقتها المطلقة وقبلت بتواضع حقيقتها الذاتية التي مرت عبر معمارية الغير. لقد أصبحت الذات في اللحظة المعاصرة مع ريكور قادرة عبر التفكيري كمجهود مستمر لفهم ذاتها على اكتشاف معنى تجربتها عن طريق التساؤل المستمر عن الأسس التي تقوم عليها. إن التفكيرية تدعو الذات إلى المرور عبر الطريق الطويل والعودة عبر توسط الغير بماهو عالم الرموز والإشارات وان التوسط هو إذن قبول لفلسفة الآخر وسماع كلمته من أجل إعادة اكتشاف الذات على نحو آخر أكثر عمقا واتساعا.
هل يمكن أن نلخص تاريخ البشرية في جملة تكتب على ورقة صغيرة في حجم لفيف السجائر كما يقول جوزيف كونراد في روايته "حظ" Fortune؟ أليس الجواب الذي يمكن التعبير عنه في هذه الصياغة هو على النحو التالي: "الناس يولدون ويتعذبون ثم يموتون ولكنها قصة مليئة بالعظمة"؟
حواشي
[1] درس هرمينوطيقا الذات، دروس ميشيل فوكو، ترجمة محمد ميلاد، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988،ص.77.
[2] بول ريكور الذات عينها كآخر ، جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى نوفمبر بيروت 2005ص74
[3] درس الذاتية والحقيقة، دروس ميشيل فوكو، ترجمة محمد ميلاد،ص.71.
[4] الفارابي، إحصاء العلوم، حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور عثمان أمين، طبعة 1949، ص42
[5] بول ريكور الذات عينها كآخر ، جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى نوفمبر بيروت 2005ص84
[6] بول ريكور، بعد طول تأمل، ترجمة فؤاد مليت، منشورات الاختلاف،الجزائر، الطبعة الأولى، 2006، ص.104.
[7] Paul Ricœur, Mémoire, Histoire, Oubli, Seuil,2000, pp636
[8] بول ريكور، مأخوذة من كتاب عادل مصطفي فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007, ص.456.
[9] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي2003،ص147-148
[10] Jean Greisch, Le cogito herméneutique. - L’herméneutique philosophique et l’héritage cartésien, editions, Vrin, Paris, 2000

dracola
Admin

عدد المساهمات : 92
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
العمر : 40

https://wings.ahlamontada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى