نقد الحداثة
نقد الحداثة
نقد الحداثة ( الحوار من وجهة نظر الفلاسفة واللاهوتيين )
________________________________________
ألن تورن
ما هي الحداثة التي كانت منذ ثلاثة قرون ذات مكانة سامية في أفكارنا وأعمالنا، وهي الآن موضع للبحث والتبرؤ منها وتقديم تعريف جديد لها؟
إنّ فكرة الحداثة في أفضل صورها هي الإذعان لفكرة، أن قيمة الإنسان هي ما يفعله، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون هناك تناسب شديد بين الإنتاج الذي يتعزز بالعلم والإبداع وتنظيم المجتمع الذي يصبح أصولياً بواسطة القانون، وبين تنظيم الحياة الفردية الذي يستقي روحه من الانتفاع والرغبة في الانعتاق من الالتزامات. لكن إلى أي شيء يمكن أن يستند تناسب ثقافة علمية أو مجتمع مع النظام الاجتماعي سوى إلى غلبة العقل؟
إن العقل وحده يستطيع خلق التناسب بين عمل الإنسان ونظام العالم، التناسب الذي كان فيما مضى مراد الكثير من الأفكار الدينية، إلا أنه شلّ بسبب الغائية الخاصة بالديانات التوحيدية المستندة إلى الوحي. والعقل هو الذي يبعث الروح في العلم واستخداماته. وهو الذي يأمر بالتوفيق بين الحياة الاجتماعية والاحتياجات الفردية والاجتماعية. وأخيراً؛ هو الذي يزيل الاستبداد والقسوة ويحل محلها الدولة القائمة على الحقوق ( Etat de droit ) والمنافسة الاقتصادية الحرة. وعلى هذا (واستناداً إلى فكرة الحداثة)، فإن الإنسانية بعملها طبقاً للقوانين تسير بشكل متزامن نحو الوفرة والحرية والسعادة.
والفقرة الأخيرة هي التي أصبحت محط احتجاج أو إنكار منتقدي الحداثة. الحرية من أي جانب يا ترى؟ السعادة الفردية أم إشباع الرغبات العقلانية؟ فلنفترض وجود تعارض بين استبداد الملك وتمسك الرعية بالعادات والتقاليد المحلية والعملية وبين عقلنة الإنتاج. ولنفترض أيضاً أن عقلانية كهذه تؤدي إلى سقوط الحواجز وتراجع القسوة والعدوان وقيام دولة قائمة على احترام القانون، لكن هذا الأمر ليست له أية علاقة بالحرية والديمقراطية الشعبية والسعادة الفردية. وهذا الأمر يدركه الفرنسيون جيداً، لأن الحكومة شكلت في بلدهم على أساس الحقوق ضمن الملكية المطلقة. وإن كون الإقتدار العقلاني-القانوني، كان إلى جانب اقتصاد السوق في إنشاء المجتمع الجديد. لا يكفي لإثبات أن النمو الإقتصادي والديمقراطي وقوة العقل مرتبطان ببعضهما، ويستلزم كل منهما الآخر. وهذان الإثنان مقترنان ببعضهما بطبيعة الحال، لكنهما فحسب على هذه الحال بسبب نضالهما المشترك ضد التقليد والاستبداد؛ أي أن تلازمهما "نقض" وليس "إثباتاً" وهناك نقد شبيه بهذا، لكنه أشد قليلاً، موجّه إلى العلاقة المفترضة بين العقلنة والسعادة. وإن الانعتاق من هيمنة الحكم المفروضية وأشكال القوة التقليدية، هو تمهيد الأرضية للسعادة، لكنه لا يضمن تحققها. وإن ظروفاً كهذه رغم أنها تجر الحرية أيضاً إلى بساط البحث، فإنها في الوقت نفسه تقيدها وتجعلها تابعة للمؤسسة المركزية للإنتاج والاستهلاك. وإن الإعلان عن أن الرقي عبارة عن الاتجاه نحو الوفرة والحرية والسعادة، وإن الأهداف الثلاثة المذكورة مرتبطة ببعضها بقوة، ليس سوى أيديولوجية كذّبها التاريخ على الدوام.
يضيف نقاد أيديولوجية الحداثة المتشددون إلى هذا: أن ما يدعى بسيادة العقل ليس إلا هيمنة النظام المتعاظمة على الأفراد، أي التطبيع ( Normalisation ) وجعلها تتطابق مع المعيارية ( Standardisation ) التي تنتقل أيضاً إلى ميدان الاستهلاك والعلاقات بعد القضاء على استقلالية الموظفين. وإن فرض الهيمنة هذا يتم أحياناً بأسلوب حر، وفي أخرى بأسلوب مفروض، لكن في جميع الأحوال وحتى حين تطرح هذه الحداثة حرية الموضوع، فإن هدفها هو جعل كل فرد خاضعاً لمنفعة الجميع، بغض النظر عن كون هذا الجميع مؤسسة اقتصادية، أو شعباً، أو مجتمعاً، أو العقل نفسه. ترى ألم يتم باسم العقل وشمولية العالم بسط هيمنة الإنسان الغربي الذكر البالغ المتعلم على أرجاء العالم من مسخرين لمصلحته ومستعمرين من قبله ونساء وأطفال؟
كيف يمكن لهذه الانتقادات أن لا تكون مقنعة بينما تطرح في نهاية قرن أخضع في قسم كبير من العالم - في ظل هيمنة الحركة الشيوعية- الأنظمة الكليانية ( Totalitarian ) المستندة إلى العقل والعلم والفن.
وجواب الغرب - دفاعاً عن الحداثة- هو أنه ومنذ زمن بعيد- منذ عصر الرعب الذي استبدلت به الثورة الفرنسية- كان ينظر بتشاؤم إلى هذه العقلنة المفروضة وهذا الإستبداد الإصلاحي. ولذا فقد استبدل (الغرب) الرؤية العقلية إلى العالم والعمل الإنساني تدريجياً بصورة أكثر تواضعاً ومجرد أداة من أدوات العقلانية، ولهذا الهدف يسخّر العقلانية في خدمة الطلبات والحاجات بشكل أكبر من السابق، الحاجات التي كانت في مجتمع الاستهلاك الهائل، أكثر انسجاماً مع القواعد التي تستلزم العقلانية ومع المجتمع المنتج الذي يميل إلى التكديس، منها مع مجتمع الإستهلاك الهائل. وفي الحقيقة فإن هذا المجتمع الواقع تحت هيمنة الإستهلاك الهائل، ومن ثم العلاقات الواسعة، بعيد عن الرأسمالية الزاهدة الطاهرة ( Purition ) التي يقصدها فيبر بقدر بعدها عن الإستناد الشائع في روسيا القديمة إلى قوانين التاريخ.
غير أن هذا التصور الشفاف عن الحداثة ليس بمأمن -هو الآخر- من لسعات النقد. والسؤال هنا هو: ترى ألا يضيع تصور كهذا في عدمية المعنى؟ أولا أن يولي أكبر الاهتمام للطلبات التجارية التي تتمتع بأشد درجات الإلحاح وبالنتيجة أقل مقدار من الأهمية أليست حداثة كهذه عمياء تهبط بالمجتمع إلى مستوى سوق، دون أن تقلق من الفوارق الطبقية التي تزيدها، ولا من تدمير بيئتها الطبيعية والاجتماعية الذي تحث الخطى إليه؟
ولأجل البقاء بمأمنٍ من أضرار هذين النوعين من النقد، فقد رضي كثيرون بتصور أكثر تواضعاً عن الحداثة. وبحسب رأيهم فإن العقل ليس مؤسس أيّ من المجتمعات، بل هو طاقة ناقدة تصهر الفوارق الحرفية والطبقية. لقد دخلت بريطانيا، وهولندا والولايات المتحدة وفرنسا الحداثة عن طريق الثورة ورفض الاستبداد، واليوم، وحيث تطغى على مصطلح الثورة سمة السلبية أكثر من الإيجابية، يجري الحديث عن التحرير، سواء أكان موضوعه طبقة مظلومة، أو شعباً مستعمراً، أو نساء مستعبدات، أو أقليات تواجه ضغوطاً. ترى إلى ماذا يهدف هذا التحرر؟ هو بالنسبة للبعض المساواة في المكانة، وبالنسبة للبعض الآخر هو الشمولية الثقافية ( Multicultaralisme ) المعتدلة. لكن هل أن الحرية السياسية - استناداً إلى تعريف آيزيا برلين - هي فقط حرية سلبية تتغير خلافاً لرغبة الأكثرية بسبب عدم إمكانية عدم نيل السلطة أو الاستمرار فيها؟ وهل السعادة هي مجرد حرية فرض الإرادة وتحقيق الرغبات؟ وبكلمة واحدة، هل أن المجتمع الحديث يسير نحو إزالة جميع أشكال النظام وكافة أسس التنظيم الماضية، ليشمل فحسب تيار مزيج من التغييرات والبرامج الخاصة والمؤسساتية أو السياسية مما ينظم بواسطة قانون أو عقد؟
إن ليبرالية واسعة إلى هذا الحد، لن تقدم بعد هذا أي مبدأ للحكم، أو إدارة الأمور، أو التعليم. ولم تعد تضمن التوافق بين النظام والممثل الذي كان الهدف السامي للعقلانيين خلال عصر التنوير، وتقلل من خلال التسامح الذي يراعى فحسب في غياب الأزمات الإجتماعية الحادة، وينفع بشكل خاص من يملكون مصادر عديدة للكسب.
ترى ألا يقضي تصور شفاف إلى هذا الحد عن الحداثة، على نفسه بنفسه؟ وهذه قاعدة انطلاق النقود الموجهة لما بعد الحداثة. كان بودلير ( Baudlaire ) يرى في الحياة الحديثة بأسرها وفي فنونها حضور الخلود في لحظة. لكن أليس هذا تحولاً بسيطاً في الأيديولوجيات قائماً على مبادئ دينية أو سياسية ثابتة ولمجتمع ما بعد التاريخ الذي تتعايش فيه جميع الأشياء من قديم وجديد ومن هنا وهناك دون ادعاء الأفضلية؟ وأليست ثقافة ما بعد الحداثة هذه عاجزة عن الإبداع؟ أولم تهبط إلى المستوى الذي تعكس فيه إبداعات غيرها من الثقافات، الثقافات التي كانت تعتبر نفسها حاملة للحقيقة؟
ومهما يكن فإن الحداثة من أقوى معالجاتها إلى أدق وأضعف رواياتها، عندما تعرّف بالقضاء على النظم القديمة ونجاحات العقلانية سواء المحسوس منها أو الآلي، أخمدت طاقتها الانعتاقية وإبداعها. فقد ابدت عناداً مماثلاً في مواجهة طاقات متعارضة، مثل الدعوة العامة لحقوق الإنسان والفوارق الطبقية والتمييز العنصري.
لكن هل أن نتيجة هذه النقود هي أن يتوجب الذهاب إلى معسكر آخر والالتفاف حول محور العودة الكبرى لشتى أنواع الاتجاهات القومية والخاصة والتوحّد من ديني وغيره مما يبدو أنه في طريقه إلى التقدم، في كل مكان تقريباً من أحدث البلدان تطوراً وحتى البلدان التي تحولت فجأة من الأعلى بواسطة التجديد؟ وبكل تأكيد فإن فهم تبلور حركات كهذه يحتاج إلى دراسة ناقدة فيما يخص الرأي الشائع في الغرب عن فكرة الحداثة، إلا أن ذلك لا يسوّغ على الإطلاق، أن نضع عملية العقلنة وطاقة الانعتاق للفكر الناقد والفردية في سلة واحدة.
وبهذا نصل إلى نقطة البداية.. فإن كنا ندحض العودة إلى السنّة والجماعة ( ) ( Comminuted ). وعلينا أن نبحث عن تعريف جديد للحداثة وتفسير جديد لتاريخنا الحديث الذي انحدر غالباً وهو في قمة العقل والظاهرة العرفية اللادينية، والتي هي في الوقت نفسه مفروضة ومحرّرة. فإذا لم يكن باستطاعة الحداثة أن تعرّف إلا بالعقلنة فحسب، فعلى العكس إذا كان الانطباع عن الحداثة بمستوى التيار المتواصل للتغييرات، هو ضعف منطق قوة ومقاومة الهويات الثقافية، أفلا يتضح من كل ذلك أن الحداثة بشكل دقيق تعرف بالفصل المتزايد بين العالم المحسوس الذي خلق بواسطة العقل والانسجام مع قانون الطبيعة وبين العالم الذهني (الذاتي Subjectivitè ) الذي هو قبل كل شيء عالم فردي، أو بتعبير أدق عالم الدعوة إلى الحرية الفردية؟ وقد حطمت الحداثة العالم القدسي الذي كان طبيعياً وإلهياً أيضاً، مكشوفاً للعقل ومخلوقاً لله بأسره. لكن الأمر لم يكن بأن يستبدله بالعالم الحقيقي والعرفي عن طريق دفع الأهداف إلى داخل عالم لا يستطيع الإنسان الآخر أن يناله. بل فرض عزل عالم ذهني هبط من السماء إلى الأرض وأصبح بشرياً، عن عالم أشياء تغيّر بالفنون. والحداثة استبدلت وحدة الدنيا التي هي مخلوقة الإرادة الإلهية،والعقل أو التاريخ، بثنائية بين العقلنة وذاتية التمحور.
وإن منهج هذه المقالة: في البدء انتصار الإنطباع العقلي عن الحداثة رغم مقاومة الإثنينية المسيحية التي ألهمت الفكر الديكارتي. وهي تذكر أيضاً ورغم نظريات الحقوق الطبيعية وإعلان حقوق الإنسان. ثم يتابع بعد ذلك وتدمير هذا الطريق إلى الحداثة من خلال الفكر والأنشطة الإجتماعية. وبعد ذلك إلى مرحلة الإنفصال الكامل تكون صورة المجتمع كنهر متدفق من التغيرات التي لا يمكن الحيلولة دونها مما يتبع فيه القائمون بالأدوار خطط الانتصار أو البقاء على قيد الحياة. ويتقدم تصوير آخر يدل على ثقافة متخيلة لما بعد الحداثة. وأخيراً يقترح المقال أن تعرف الحداثة على أنها علاقة مشحونة بالصراع بين العقل والموضوع والعقلنة والاهتمام بالموضوع، وروح النهضة وروح الإصلاح الديني. على أن يكون هذا الموقف على مسافة واحدة من مدرسة التجديد التي رايتها اليوم نصف مشرعة، ومن مدرسة ما بعد الحداثة التي يتربص شبحها هنا وهناك.
لكن ضد أية جبهة ينبغي للحرب المصيرية أن تنشب؟؟ أهي ضد عجرفة أيديولوجية العصرنة، أم ضد عملية تخريب فكرة الحداثة؟ وغالباً ما اختار المتنوّرون الجواب الأول. وإذا كان قرننا قد تجلّى في نظرة المبدعين وعلماء الإقتصاد كفاتح كما في قرن الحداثة، فقد كان من الناحية الفكرية أيضاً واقعاً تحت الآراء المضادة للحداثة. ومع هذا فإنه يوجد اليوم خطر آخر يبدو أكثر واقعية كما أرى، ذلكم هو خطر الفصل التام بين النظام والقائمين بالأدوار، بين عالم الصناعة والاقتصاد وعالم الموضوعات، وبين العالمين الخارجي والداخلي. رغم أن المظهر الخارجي لمجتمعنا أشبه بشركة كلمات ابتليت بالكفاح بجهد جهيد، من أجل الاستمرار في الحضور في الأسواق العالمية، شاعت بشكل أكبر وساوس البحث عن الهوية التي لم يعد بالإمكان تعريفها في أطر المفاهيم الإجتماعية، سواء أكانت تلك الهوية المذكورة، تجمعاً ( Communautarisme ) جديداً في بلدان فقيرة أو فردية ترى لنفسها أبهة في البلدان الغنية. وإن الفصل التام بين الحياة العامة والحياة الخاصة سينتهي بانتصار قوى يمكن تعريفها فحسب في إطار تعابير الإشراف والإدارة العامة. وفي مقابل ذلك يساق أغلب ألأفراد نحو بيئة خاصة. وهذا الوضع هو الذي يحلّ منزلقاً لا نهاية له محل البيئة العامة الاجتماعية والسياسية التي كانت مسقط رأس الديمقراطيات الجديدة.
كيف لنا أن نتغاضى - في ظرف كهذه- عن شكل من التراجع نحو مجتمعات يعيش فيها الأقوياء أصحاب النفوذ وعامة الناس في عوالم منفصلة، عالم المقاتلين الفاتحين من جهة، وعالم الأشخاص العاديين السجناء في مجتمع محلي من جهة أخرى؟ والأهم من هذا كيف يمكن غض النظر عن حقيقة أن العالم انقسم إلى شطرين بشكل أعمق من أي وقتٍ مضى بين الشمال الذي تحكمه الآلية والسلطة، والجنوب الذي هو أسير قلق الهوية التي اضاعها؟
لكن هذه الرواية للموضوع لا تفصح عن الحقيقة بأسرها، فنحن لا نحيى تماماً في وضعية حديثة جداً ذات مؤشر فصل تام بين النظام واللاعبين، لكن يمكن القول إننا نعيش في مجتمع صناعي جداً، أفضل أن أسميه المجتمع المبرمج الذي يعرّف بما يتناسب والأهمية الفائقة للصناعات الثقافية- إن لم يكن بحق الصناعات الطبية والتربية والتعليم والمعلومات -ويضع فيه الصراع المحوري أجهزة الإنتاج الثقافي على طرف نقيض من الدفاع عن البحث الفردي. ويكون هذا المجتمع الصناعي نطاق أنشطة ثقافية واجتماعية أكثر صلابة من نطاق شبيه بها في المجتمع العصري الصناعي الآيل للإضمحلال، ولا يستطيع الموضوع أن ينصهر في ما بعد الحداثة، ذلك أنه يرسخ وجوده في الحرب ضد القوى التي تفرض هيمنتها باسم العقل. وهذا الاتساع الذي لا حد له من تدخل القوى في الأمور وضرورة مواجهة لاعبي الأدوار له، هو الذي يحرر الموضوع من اتحاد الهوية بمنتجاتها وبفلسفات التاريخ الساذجة أكثر من اللازم.
كيف يمكن إحياء الصلات بين الاقتصاد والثقافة، وكيف يمكن إعادة الحياة الاجتماعية وخاصة السياسية التي انهيارها الحالي في كل العالم تقريباً ناجم عن التضاد بين الآلة والمعنى وبين الطريق والهدف؟ هذه هي تبعات التبعات السياسية لهذا التأمل الفكري الفلسفي الناتج عن خلاص فكرة الحداثة، من الرواية الفاتحة والقاسية التي منحها الغرب لها، وكذلك من الأزمة التي ابتليت بها منذ قرن مضى. ونقد الحداثة الذي نورده هنا يدور حول تخليصها من قبضة تقليد تاريخي هبط بالحداثة إلى مستوى العقلنة، ويعيد دخول مفهوم الذاتية الفردية الفاعلة الحرة إلى مجال النقد ومنحها الحرية. ولا تستند الحداثة إلى مبدأ واحد، خاصة مبدأ إزالة العقبات القائمة عن طريق هيمنة العقل، بل هي ناتج الحوار بين العقل- المشترك بين الجميع- والموضوع المقتصر على المعلومات والاختيار الفردي. وفي غياب العقل يبتلى الموضوع (الفاعل المختار) بخلجات هويته.
وفي غياب الموضوع يتحول العقل إلى وسيلة للقوة، وفي القرن الحاضر رأينا دكتاتورية العقل، وكذلك مآسي الكليانية ( Totalitarian ) للموضوع، ترى هل يمكن لوجهي الحداثة هذين اللذين كانا إما متصارعين أو يتجاهل أحدهما الآخر، أن يفتحا باب الحوار أخيراً ويتعلما التعايش مع بعضهما؟.
1. تطلق كلمة الجماعة على المجتمع الذي محوره حقيقي مثل علاقات القربى، وليس على الحقوقي مثل العقد الاجتماعي.
________________________________________
ألن تورن
ما هي الحداثة التي كانت منذ ثلاثة قرون ذات مكانة سامية في أفكارنا وأعمالنا، وهي الآن موضع للبحث والتبرؤ منها وتقديم تعريف جديد لها؟
إنّ فكرة الحداثة في أفضل صورها هي الإذعان لفكرة، أن قيمة الإنسان هي ما يفعله، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون هناك تناسب شديد بين الإنتاج الذي يتعزز بالعلم والإبداع وتنظيم المجتمع الذي يصبح أصولياً بواسطة القانون، وبين تنظيم الحياة الفردية الذي يستقي روحه من الانتفاع والرغبة في الانعتاق من الالتزامات. لكن إلى أي شيء يمكن أن يستند تناسب ثقافة علمية أو مجتمع مع النظام الاجتماعي سوى إلى غلبة العقل؟
إن العقل وحده يستطيع خلق التناسب بين عمل الإنسان ونظام العالم، التناسب الذي كان فيما مضى مراد الكثير من الأفكار الدينية، إلا أنه شلّ بسبب الغائية الخاصة بالديانات التوحيدية المستندة إلى الوحي. والعقل هو الذي يبعث الروح في العلم واستخداماته. وهو الذي يأمر بالتوفيق بين الحياة الاجتماعية والاحتياجات الفردية والاجتماعية. وأخيراً؛ هو الذي يزيل الاستبداد والقسوة ويحل محلها الدولة القائمة على الحقوق ( Etat de droit ) والمنافسة الاقتصادية الحرة. وعلى هذا (واستناداً إلى فكرة الحداثة)، فإن الإنسانية بعملها طبقاً للقوانين تسير بشكل متزامن نحو الوفرة والحرية والسعادة.
والفقرة الأخيرة هي التي أصبحت محط احتجاج أو إنكار منتقدي الحداثة. الحرية من أي جانب يا ترى؟ السعادة الفردية أم إشباع الرغبات العقلانية؟ فلنفترض وجود تعارض بين استبداد الملك وتمسك الرعية بالعادات والتقاليد المحلية والعملية وبين عقلنة الإنتاج. ولنفترض أيضاً أن عقلانية كهذه تؤدي إلى سقوط الحواجز وتراجع القسوة والعدوان وقيام دولة قائمة على احترام القانون، لكن هذا الأمر ليست له أية علاقة بالحرية والديمقراطية الشعبية والسعادة الفردية. وهذا الأمر يدركه الفرنسيون جيداً، لأن الحكومة شكلت في بلدهم على أساس الحقوق ضمن الملكية المطلقة. وإن كون الإقتدار العقلاني-القانوني، كان إلى جانب اقتصاد السوق في إنشاء المجتمع الجديد. لا يكفي لإثبات أن النمو الإقتصادي والديمقراطي وقوة العقل مرتبطان ببعضهما، ويستلزم كل منهما الآخر. وهذان الإثنان مقترنان ببعضهما بطبيعة الحال، لكنهما فحسب على هذه الحال بسبب نضالهما المشترك ضد التقليد والاستبداد؛ أي أن تلازمهما "نقض" وليس "إثباتاً" وهناك نقد شبيه بهذا، لكنه أشد قليلاً، موجّه إلى العلاقة المفترضة بين العقلنة والسعادة. وإن الانعتاق من هيمنة الحكم المفروضية وأشكال القوة التقليدية، هو تمهيد الأرضية للسعادة، لكنه لا يضمن تحققها. وإن ظروفاً كهذه رغم أنها تجر الحرية أيضاً إلى بساط البحث، فإنها في الوقت نفسه تقيدها وتجعلها تابعة للمؤسسة المركزية للإنتاج والاستهلاك. وإن الإعلان عن أن الرقي عبارة عن الاتجاه نحو الوفرة والحرية والسعادة، وإن الأهداف الثلاثة المذكورة مرتبطة ببعضها بقوة، ليس سوى أيديولوجية كذّبها التاريخ على الدوام.
يضيف نقاد أيديولوجية الحداثة المتشددون إلى هذا: أن ما يدعى بسيادة العقل ليس إلا هيمنة النظام المتعاظمة على الأفراد، أي التطبيع ( Normalisation ) وجعلها تتطابق مع المعيارية ( Standardisation ) التي تنتقل أيضاً إلى ميدان الاستهلاك والعلاقات بعد القضاء على استقلالية الموظفين. وإن فرض الهيمنة هذا يتم أحياناً بأسلوب حر، وفي أخرى بأسلوب مفروض، لكن في جميع الأحوال وحتى حين تطرح هذه الحداثة حرية الموضوع، فإن هدفها هو جعل كل فرد خاضعاً لمنفعة الجميع، بغض النظر عن كون هذا الجميع مؤسسة اقتصادية، أو شعباً، أو مجتمعاً، أو العقل نفسه. ترى ألم يتم باسم العقل وشمولية العالم بسط هيمنة الإنسان الغربي الذكر البالغ المتعلم على أرجاء العالم من مسخرين لمصلحته ومستعمرين من قبله ونساء وأطفال؟
كيف يمكن لهذه الانتقادات أن لا تكون مقنعة بينما تطرح في نهاية قرن أخضع في قسم كبير من العالم - في ظل هيمنة الحركة الشيوعية- الأنظمة الكليانية ( Totalitarian ) المستندة إلى العقل والعلم والفن.
وجواب الغرب - دفاعاً عن الحداثة- هو أنه ومنذ زمن بعيد- منذ عصر الرعب الذي استبدلت به الثورة الفرنسية- كان ينظر بتشاؤم إلى هذه العقلنة المفروضة وهذا الإستبداد الإصلاحي. ولذا فقد استبدل (الغرب) الرؤية العقلية إلى العالم والعمل الإنساني تدريجياً بصورة أكثر تواضعاً ومجرد أداة من أدوات العقلانية، ولهذا الهدف يسخّر العقلانية في خدمة الطلبات والحاجات بشكل أكبر من السابق، الحاجات التي كانت في مجتمع الاستهلاك الهائل، أكثر انسجاماً مع القواعد التي تستلزم العقلانية ومع المجتمع المنتج الذي يميل إلى التكديس، منها مع مجتمع الإستهلاك الهائل. وفي الحقيقة فإن هذا المجتمع الواقع تحت هيمنة الإستهلاك الهائل، ومن ثم العلاقات الواسعة، بعيد عن الرأسمالية الزاهدة الطاهرة ( Purition ) التي يقصدها فيبر بقدر بعدها عن الإستناد الشائع في روسيا القديمة إلى قوانين التاريخ.
غير أن هذا التصور الشفاف عن الحداثة ليس بمأمن -هو الآخر- من لسعات النقد. والسؤال هنا هو: ترى ألا يضيع تصور كهذا في عدمية المعنى؟ أولا أن يولي أكبر الاهتمام للطلبات التجارية التي تتمتع بأشد درجات الإلحاح وبالنتيجة أقل مقدار من الأهمية أليست حداثة كهذه عمياء تهبط بالمجتمع إلى مستوى سوق، دون أن تقلق من الفوارق الطبقية التي تزيدها، ولا من تدمير بيئتها الطبيعية والاجتماعية الذي تحث الخطى إليه؟
ولأجل البقاء بمأمنٍ من أضرار هذين النوعين من النقد، فقد رضي كثيرون بتصور أكثر تواضعاً عن الحداثة. وبحسب رأيهم فإن العقل ليس مؤسس أيّ من المجتمعات، بل هو طاقة ناقدة تصهر الفوارق الحرفية والطبقية. لقد دخلت بريطانيا، وهولندا والولايات المتحدة وفرنسا الحداثة عن طريق الثورة ورفض الاستبداد، واليوم، وحيث تطغى على مصطلح الثورة سمة السلبية أكثر من الإيجابية، يجري الحديث عن التحرير، سواء أكان موضوعه طبقة مظلومة، أو شعباً مستعمراً، أو نساء مستعبدات، أو أقليات تواجه ضغوطاً. ترى إلى ماذا يهدف هذا التحرر؟ هو بالنسبة للبعض المساواة في المكانة، وبالنسبة للبعض الآخر هو الشمولية الثقافية ( Multicultaralisme ) المعتدلة. لكن هل أن الحرية السياسية - استناداً إلى تعريف آيزيا برلين - هي فقط حرية سلبية تتغير خلافاً لرغبة الأكثرية بسبب عدم إمكانية عدم نيل السلطة أو الاستمرار فيها؟ وهل السعادة هي مجرد حرية فرض الإرادة وتحقيق الرغبات؟ وبكلمة واحدة، هل أن المجتمع الحديث يسير نحو إزالة جميع أشكال النظام وكافة أسس التنظيم الماضية، ليشمل فحسب تيار مزيج من التغييرات والبرامج الخاصة والمؤسساتية أو السياسية مما ينظم بواسطة قانون أو عقد؟
إن ليبرالية واسعة إلى هذا الحد، لن تقدم بعد هذا أي مبدأ للحكم، أو إدارة الأمور، أو التعليم. ولم تعد تضمن التوافق بين النظام والممثل الذي كان الهدف السامي للعقلانيين خلال عصر التنوير، وتقلل من خلال التسامح الذي يراعى فحسب في غياب الأزمات الإجتماعية الحادة، وينفع بشكل خاص من يملكون مصادر عديدة للكسب.
ترى ألا يقضي تصور شفاف إلى هذا الحد عن الحداثة، على نفسه بنفسه؟ وهذه قاعدة انطلاق النقود الموجهة لما بعد الحداثة. كان بودلير ( Baudlaire ) يرى في الحياة الحديثة بأسرها وفي فنونها حضور الخلود في لحظة. لكن أليس هذا تحولاً بسيطاً في الأيديولوجيات قائماً على مبادئ دينية أو سياسية ثابتة ولمجتمع ما بعد التاريخ الذي تتعايش فيه جميع الأشياء من قديم وجديد ومن هنا وهناك دون ادعاء الأفضلية؟ وأليست ثقافة ما بعد الحداثة هذه عاجزة عن الإبداع؟ أولم تهبط إلى المستوى الذي تعكس فيه إبداعات غيرها من الثقافات، الثقافات التي كانت تعتبر نفسها حاملة للحقيقة؟
ومهما يكن فإن الحداثة من أقوى معالجاتها إلى أدق وأضعف رواياتها، عندما تعرّف بالقضاء على النظم القديمة ونجاحات العقلانية سواء المحسوس منها أو الآلي، أخمدت طاقتها الانعتاقية وإبداعها. فقد ابدت عناداً مماثلاً في مواجهة طاقات متعارضة، مثل الدعوة العامة لحقوق الإنسان والفوارق الطبقية والتمييز العنصري.
لكن هل أن نتيجة هذه النقود هي أن يتوجب الذهاب إلى معسكر آخر والالتفاف حول محور العودة الكبرى لشتى أنواع الاتجاهات القومية والخاصة والتوحّد من ديني وغيره مما يبدو أنه في طريقه إلى التقدم، في كل مكان تقريباً من أحدث البلدان تطوراً وحتى البلدان التي تحولت فجأة من الأعلى بواسطة التجديد؟ وبكل تأكيد فإن فهم تبلور حركات كهذه يحتاج إلى دراسة ناقدة فيما يخص الرأي الشائع في الغرب عن فكرة الحداثة، إلا أن ذلك لا يسوّغ على الإطلاق، أن نضع عملية العقلنة وطاقة الانعتاق للفكر الناقد والفردية في سلة واحدة.
وبهذا نصل إلى نقطة البداية.. فإن كنا ندحض العودة إلى السنّة والجماعة ( ) ( Comminuted ). وعلينا أن نبحث عن تعريف جديد للحداثة وتفسير جديد لتاريخنا الحديث الذي انحدر غالباً وهو في قمة العقل والظاهرة العرفية اللادينية، والتي هي في الوقت نفسه مفروضة ومحرّرة. فإذا لم يكن باستطاعة الحداثة أن تعرّف إلا بالعقلنة فحسب، فعلى العكس إذا كان الانطباع عن الحداثة بمستوى التيار المتواصل للتغييرات، هو ضعف منطق قوة ومقاومة الهويات الثقافية، أفلا يتضح من كل ذلك أن الحداثة بشكل دقيق تعرف بالفصل المتزايد بين العالم المحسوس الذي خلق بواسطة العقل والانسجام مع قانون الطبيعة وبين العالم الذهني (الذاتي Subjectivitè ) الذي هو قبل كل شيء عالم فردي، أو بتعبير أدق عالم الدعوة إلى الحرية الفردية؟ وقد حطمت الحداثة العالم القدسي الذي كان طبيعياً وإلهياً أيضاً، مكشوفاً للعقل ومخلوقاً لله بأسره. لكن الأمر لم يكن بأن يستبدله بالعالم الحقيقي والعرفي عن طريق دفع الأهداف إلى داخل عالم لا يستطيع الإنسان الآخر أن يناله. بل فرض عزل عالم ذهني هبط من السماء إلى الأرض وأصبح بشرياً، عن عالم أشياء تغيّر بالفنون. والحداثة استبدلت وحدة الدنيا التي هي مخلوقة الإرادة الإلهية،والعقل أو التاريخ، بثنائية بين العقلنة وذاتية التمحور.
وإن منهج هذه المقالة: في البدء انتصار الإنطباع العقلي عن الحداثة رغم مقاومة الإثنينية المسيحية التي ألهمت الفكر الديكارتي. وهي تذكر أيضاً ورغم نظريات الحقوق الطبيعية وإعلان حقوق الإنسان. ثم يتابع بعد ذلك وتدمير هذا الطريق إلى الحداثة من خلال الفكر والأنشطة الإجتماعية. وبعد ذلك إلى مرحلة الإنفصال الكامل تكون صورة المجتمع كنهر متدفق من التغيرات التي لا يمكن الحيلولة دونها مما يتبع فيه القائمون بالأدوار خطط الانتصار أو البقاء على قيد الحياة. ويتقدم تصوير آخر يدل على ثقافة متخيلة لما بعد الحداثة. وأخيراً يقترح المقال أن تعرف الحداثة على أنها علاقة مشحونة بالصراع بين العقل والموضوع والعقلنة والاهتمام بالموضوع، وروح النهضة وروح الإصلاح الديني. على أن يكون هذا الموقف على مسافة واحدة من مدرسة التجديد التي رايتها اليوم نصف مشرعة، ومن مدرسة ما بعد الحداثة التي يتربص شبحها هنا وهناك.
لكن ضد أية جبهة ينبغي للحرب المصيرية أن تنشب؟؟ أهي ضد عجرفة أيديولوجية العصرنة، أم ضد عملية تخريب فكرة الحداثة؟ وغالباً ما اختار المتنوّرون الجواب الأول. وإذا كان قرننا قد تجلّى في نظرة المبدعين وعلماء الإقتصاد كفاتح كما في قرن الحداثة، فقد كان من الناحية الفكرية أيضاً واقعاً تحت الآراء المضادة للحداثة. ومع هذا فإنه يوجد اليوم خطر آخر يبدو أكثر واقعية كما أرى، ذلكم هو خطر الفصل التام بين النظام والقائمين بالأدوار، بين عالم الصناعة والاقتصاد وعالم الموضوعات، وبين العالمين الخارجي والداخلي. رغم أن المظهر الخارجي لمجتمعنا أشبه بشركة كلمات ابتليت بالكفاح بجهد جهيد، من أجل الاستمرار في الحضور في الأسواق العالمية، شاعت بشكل أكبر وساوس البحث عن الهوية التي لم يعد بالإمكان تعريفها في أطر المفاهيم الإجتماعية، سواء أكانت تلك الهوية المذكورة، تجمعاً ( Communautarisme ) جديداً في بلدان فقيرة أو فردية ترى لنفسها أبهة في البلدان الغنية. وإن الفصل التام بين الحياة العامة والحياة الخاصة سينتهي بانتصار قوى يمكن تعريفها فحسب في إطار تعابير الإشراف والإدارة العامة. وفي مقابل ذلك يساق أغلب ألأفراد نحو بيئة خاصة. وهذا الوضع هو الذي يحلّ منزلقاً لا نهاية له محل البيئة العامة الاجتماعية والسياسية التي كانت مسقط رأس الديمقراطيات الجديدة.
كيف لنا أن نتغاضى - في ظرف كهذه- عن شكل من التراجع نحو مجتمعات يعيش فيها الأقوياء أصحاب النفوذ وعامة الناس في عوالم منفصلة، عالم المقاتلين الفاتحين من جهة، وعالم الأشخاص العاديين السجناء في مجتمع محلي من جهة أخرى؟ والأهم من هذا كيف يمكن غض النظر عن حقيقة أن العالم انقسم إلى شطرين بشكل أعمق من أي وقتٍ مضى بين الشمال الذي تحكمه الآلية والسلطة، والجنوب الذي هو أسير قلق الهوية التي اضاعها؟
لكن هذه الرواية للموضوع لا تفصح عن الحقيقة بأسرها، فنحن لا نحيى تماماً في وضعية حديثة جداً ذات مؤشر فصل تام بين النظام واللاعبين، لكن يمكن القول إننا نعيش في مجتمع صناعي جداً، أفضل أن أسميه المجتمع المبرمج الذي يعرّف بما يتناسب والأهمية الفائقة للصناعات الثقافية- إن لم يكن بحق الصناعات الطبية والتربية والتعليم والمعلومات -ويضع فيه الصراع المحوري أجهزة الإنتاج الثقافي على طرف نقيض من الدفاع عن البحث الفردي. ويكون هذا المجتمع الصناعي نطاق أنشطة ثقافية واجتماعية أكثر صلابة من نطاق شبيه بها في المجتمع العصري الصناعي الآيل للإضمحلال، ولا يستطيع الموضوع أن ينصهر في ما بعد الحداثة، ذلك أنه يرسخ وجوده في الحرب ضد القوى التي تفرض هيمنتها باسم العقل. وهذا الاتساع الذي لا حد له من تدخل القوى في الأمور وضرورة مواجهة لاعبي الأدوار له، هو الذي يحرر الموضوع من اتحاد الهوية بمنتجاتها وبفلسفات التاريخ الساذجة أكثر من اللازم.
كيف يمكن إحياء الصلات بين الاقتصاد والثقافة، وكيف يمكن إعادة الحياة الاجتماعية وخاصة السياسية التي انهيارها الحالي في كل العالم تقريباً ناجم عن التضاد بين الآلة والمعنى وبين الطريق والهدف؟ هذه هي تبعات التبعات السياسية لهذا التأمل الفكري الفلسفي الناتج عن خلاص فكرة الحداثة، من الرواية الفاتحة والقاسية التي منحها الغرب لها، وكذلك من الأزمة التي ابتليت بها منذ قرن مضى. ونقد الحداثة الذي نورده هنا يدور حول تخليصها من قبضة تقليد تاريخي هبط بالحداثة إلى مستوى العقلنة، ويعيد دخول مفهوم الذاتية الفردية الفاعلة الحرة إلى مجال النقد ومنحها الحرية. ولا تستند الحداثة إلى مبدأ واحد، خاصة مبدأ إزالة العقبات القائمة عن طريق هيمنة العقل، بل هي ناتج الحوار بين العقل- المشترك بين الجميع- والموضوع المقتصر على المعلومات والاختيار الفردي. وفي غياب العقل يبتلى الموضوع (الفاعل المختار) بخلجات هويته.
وفي غياب الموضوع يتحول العقل إلى وسيلة للقوة، وفي القرن الحاضر رأينا دكتاتورية العقل، وكذلك مآسي الكليانية ( Totalitarian ) للموضوع، ترى هل يمكن لوجهي الحداثة هذين اللذين كانا إما متصارعين أو يتجاهل أحدهما الآخر، أن يفتحا باب الحوار أخيراً ويتعلما التعايش مع بعضهما؟.
1. تطلق كلمة الجماعة على المجتمع الذي محوره حقيقي مثل علاقات القربى، وليس على الحقوقي مثل العقد الاجتماعي.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى