نقد الحاجة الى تأسيس عقلاني للأخلاق
نقد الحاجة الى تأسيس عقلاني للأخلاق
نقد الحاجة الى تأسيس عقلاني للأخلاق
________________________________________
بعيدا من غواية نيتشه واغراء الفلسفة المستقبلية التي حمل تباشيرها وأشعرنا من خلالها بخواء ما نؤمن به من قيم أخلاقية تستبد بالعقل والطبيعة، لا يمكننا تصور عالم خال من مفهومي الخير والشرّ، وتأسيسًا عليهما إبداع مفاهيم فلسفة الأخلاق وتجلياتها النظرية وتجسداتها العملية. فالقتل والسرقة والاستبداد وغيرها من أفعال وقع عليها حكم التصنيف في باب الشرّ، لا تحتاج إلى عمق استدلال وكبير استقراء لتبيان موقعها في أي منظومة أخلاقية حكمت أو تحكم، سابقًا وحاضرًا، جمعًا من البشر. لكن بديهية الخير والشرّ لا تبدو في راهن واقعنا قانونًا يصح فيه وصف الـ"يونيفرسال"، فالمواقف الميؤوس منها عادةً ما تستدعي أفعالاً ميؤوسًا منها، ولأن واقعنا مصادر لأفعال اليأس فمن البداهة أن ينسحب الأمر على جملة القيم الأخلاقية التي تحكم تصرفاتنا.
إذا كان الفكر السياسي قد شكّل العنوان الأول الذي احتل مجمل مساحات التفكر الغربي في النصف الثاني من القرن المنصرم، فإن الضرورة أعادت مسألة الأخلاق، علمًا وفلسفة، إلى التداول، مفرِدةً لها حيزًا كبيرًا من المناقشة. فتاريخ الأخلاق، الذي قطع دربًا شاقة منذ أرسطو وأخلاق الفضيلة والسعادة وصولاً إلى أخلاق الواجب مع كانط، سلك دروبًا متعرجة ووعرة أثناء محاولاته تلمس خطواته تأسيسًا للاستقلال عن كل ما هو خارجي عنه من لاهوت وميتافيزيقا وطبيعة. لكن نكوصًا عن هذا التوجه، تبلور مع سيادة النظرة الغائية التي تستمد جذورها من مماهاة أبيقور بين اللذة والمنفعة الفردية، ورسخ جملة اتجاهات فكرية نادت بالمنفعة ومن ورائها السعادة لترسيم حدود الأخلاق وما يأتي دونها، واعتمدت في سعيها هذا على نتائج الأفعال كمقياس للأحكام، فكانت نتيجة ذلك واقعًا مأزومًا يقيم في الحيز المشترك بين السياسة والأخلاق.
من هنا كانت الحاجة ماسة إلى تأسيس عقلاني لفلسفة أخلاق تسعى لاسترداد السؤال الأخلاقي من المؤثرات الخارجية وتعيده إلى عناصره الداخلية، حيث لا تكون الطبيعة والقواعد والنظم الاجتماعية أو حتى العوامل النفسية هي معيار سلوكنا بل المبادئ العقلية الباحثة عن قانون أخلاقي كلي. فالأخلاق لم تعد سعيًا إلى سعادة، أيًّا يكن شكلها، ولا سيما أن علم النفس كان قاطعًا في هذا المجال عندما اعتبر أن السعادة ليست قيمة حضارية، بمعنى أنها تقوم على فعل التقنين لا الإباحة، الحصر لا السعادة. لذلك لا مناص من سعي دؤوب لإعادة تعريف الأخلاق فلسفيًا بالعودة إلى أخلاق الواجب، المستوحاة من المثلث الأخلاقي الكانطي، المؤسس على العقل والقائم على معاملة الإنسانية كغاية لا كوسيلة بحيث يكون الفاعل ذاتًا مستقلة والفعل قاعدة صالحة عقليًا لأن تكون قاعدة كلية. جملة قواعد ينبغي للسلوك الأخلاقي أن يأخذ بها وفق ما يمليه عليه الواجب ومن ورائه الإرادة الخيّرة، بمعزل عما عداهما. وهو ما يؤسس للبحث في شروط قيام أخلاق عامة مشتركة بين البشر، بعيدًا من المعتقدات الخارجية لكل فرد ولا ترتكز على حقائق قائمة في ذاتها بمعزل عن المبادئ العقلية السابقة على التجربة.
الواجب والإرادة الخيرة
تعود الحاجة المستجدة لإعادة تأسيس الأخلاق وفق مبدأ الواجب والإرادة الخيّرة، إلى عدم صمود الأخلاق المبنية على المنفعة أمام جملة امتحانات أدت إلى سقوطها أخلاقيًا، وأبرز تجسدات هذا السقوط موضوعة العنف وتبرير استخدامها من خلال ما يسمّى الحروب العادلة. فمفهوم الحرب العادلة الذي نطق به للمرة الأولى المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس معتبرًا أن "كل حرب ضرورية هي حرب عادلة"، ساهم في إضفاء طابع أخلاقي على الحروب والنزعات التوسعية والاستعمارية. فتحت شعار الضرورة والمنفعة، اندرجت في التاريخ، قديمه ومعاصره، محاولات توسع دول وقمع شعوب، وبذلك أضحت المحافظة على النفوذ الحيوي لنظام ما في الإقليم الذي ينوجد فيه أو الامساك بالسلطة والذود عن أركانها، عوامل مركزية في صوغ قواعد الأخلاق وتأويلها، ما شرّع الباب أمام سياق طويل من الحروب المؤسسة على فكرة الضرورة. فالعدوان على المستوى النظري والعملي، لم يصبح جريمة إلا مع نهاية الحرب العالمية الأولى، على ما كتبت حنة أرندت. لكن الحرب العالمية الثانية، وتاليًا عليها قسمة العالم معسكرين، أعادتا طرح إشكالية الحروب والإبادة الجماعية والاستعمار في وجهة أربكت كل مقاربة أخلاقية في العلاقات الدولية. فتارة تحت شعارات إنسانية واجتماعية، وطورًا تحت عنوان نشر الديموقراطية أو الثورة، تم التأسيس لتجاوز الأخلاقي في السياسة بما يصل إلى حد ارتكاب أفعال الإبادة البشرية بذريعة وقف الحرب، على ما يذكّرنا به التاريخ غير البعيد لمدينتي هيروشيما وناكازاكي. ففرضت بذلك الضرورة شروطها على الأخلاق، وأصبح مبررًا دعم أنظمة استبدادية لحماية الأمن القومي لدولة من الدول أو توفير الغطاء لارتكاب فعل لا أخلاقي في حق شعب من شعوب، لرفع الظلم والحيف عن شعب آخر. تضاف إلى ذلك استنسابية تطبيق المعايير الأخلاقية في علاقات الدول، ودائمًا تحت شعار الأخلاق وما ينبع وينتج منها من معايير وقيم، تم تسويق حروب ضد الإرهاب تمارس ما تدّعي سعيها للقضاء عليه. ثمة إشكالية أساسية تطرح في هذا السياق ترتبط بمفهوم الحرب العادلة في ذاته ومآلاته المتعددة. فنهاية حرب عادلة قد لا تكون عادلة، والأهم أن حروبًا عادلة تخاض بأسلوب يُفقد القضية التي تدافع عنها عدالة تسعى لانتزاع الاعتراف بها، ناهيك بأن كل الحروب تبدو عادلة بالنسبة إلى أحد أطرافها على الأقل. فمفهوم الحرب العادلة ساهم في محاولة اضفاء نسبية في التأسيس الأخلاقي للسياسة، فخرجت عقلانية الأخلاق بذلك عن شرطها الأول، اعتبار الإنسانية غاية لا وسيلة، وهو ما سيقود إلى سقوط أخلاقي عاصرنا آخر تجلياته في المرحلة الآفلة لشرطي الأخلاق العالمي جورج بوش، وهذا ما أدى إلى تعثر أخلاقي لبعض "الغرب"، لا في علاقاته الداخلية مع مواطنيه أو في ما بين دوله، بل مع الآخر البعيد عن المركزية التي أقيم عليها البنيان السياسي الغربي. أضحى الضد يستدعي الضد في المواجهة العالمية للإرهاب، بينما نتيجة المعادلة تحيل على شبيه يُعرّّف بشبيهه.
السياسة والأخلاق والواقع العربي
أما بالنسبة إلى واقعنا، فإن الإشكالية أكثر تعقيدًا، فثمة شيء في مقاربتنا للسياسة لا ينتمي إلى السياسة، وثمة شيء في أخلاقنا السائدة لا ينتمي إلى الأخلاق. هكذا هي حالنا، لا فعل السياسة سياسي ولا حكم الأخلاق أخلاقي، طالما أن ارتكاز الحكم قام دائمًا على بعد ايديولوجي نهل تارة من أفكار قومية تلامس حدود الشوفينية، وتارة أخرى تحاكي الغيب في التعامل مع إشكاليتي السياسة والأخلاق. فإذا كانت السياسة محكومة بأساطير الماضي وأشباح الحاضر، فإن الأخلاق الناظمة لعمل السياسة لا يمكن أن تتحرر من مقاربة كهذه. فصراع الآلهة انعكس صراع أخلاق متضادة ومتعددة تعدد الرؤى الأيديولوجية التي تسوسنا لا منذ النهضة المؤودة حتى يومنا هذا بل تعود إلى تاريخ يضرب عميقًا في الجذور الثقافية للمنطقة. صحيح أن مفهوم القتل، على سبيل المثال، واحد، وعاقبته الأخلاقية واحدة، لكن الإدراج ضمن هذا الوصف يختلف بين ثقافة وأخرى. فالقتل باسم الإله يصبح مبررًا في أخلاق تمجد "الشهادة" وتقدم النقل على العقل، وتلغي الكتب لحساب الكتاب، وتحتقر الرغبة واللذة باسم ما هو متعالٍ، ممجِّدةً الروح ومُحطّةً من شأن الجسد. فما يحكمنا هي أخلاق الطاعة على ما يذهب إليه الجابري: الطاعة للإنتماءات الأولية، القبلية والعشائرية والطائفية، أي الإنتماءات القبل دولتية والمتجلية لا في السياسة فحسب بل في شتى الميادين، من اجتماع وثقافة ولاوعي جمعي. لكن أخلاق الطاعة هي أحد ركني ثنائية ساهمت في تشكل معايير الأخلاق العامة التي تحكمنا، فهذه الأخيرة نهلت من رافد ثان، وسواء أكان الأمر على نحو واع أم لا واع، فإن ما جرى التماثل معه بالإضافة إلى أخلاق الطاعة هي نسخة مبتسرة من أخلاق المنفعة تقطع مع المحدث من هذه النفعية التي انتقلت غربيًا من اطار المنفعة الفردية إلى منفعة عامة من خلال مساهمات جون ستيوارت ميل وبنتام. لكن ما جرى التماثل معه في قواعدنا السلوكية هو نمط من أنماط المنفعة التي لا ترى ضرورة في الإلزام والواجب بقدر ما تسعى إلى تحقيق المنفعة الفردية. وبذلك تم الجمع بين مستويين، الأول يرتبط بالموروث السياسي للعهود الإسلامية الأولى والمتعلق فقهيًا بإشكالية عدم جواز الخروج على فاعل الكبيرة وتقديم الطاعة له، والمستوى الثاني يرتبط بأخلاق المنفعة في نسختها الفردية. لكن هذا الحضور الضمني للأخلاق سواء ارتبطت بالطاعة أو المنفعة الفردية يبقى متناقضًا مع أي تأسيس عقلاني للأخلاق في ميدان الاجتماع والثقافة والسياسة. فالعقلانية المرتبطة بالإرادة الخيّرة وفق المنطوق الكانطي، لا يمكن أن تعامل الإنسانية إلا كغاية لا كوسيلة، وهذا ما يغيب عن مجتمعاتنا وكيفية تعبيرها عن نفسها سياسيًا. ولأن التعبير الأبرز عن الحالة السياسية العربية ارتبط منذ عقود برطانة خطاب يردَّد عن القضية الفلسطينية، فلا مناص من انسحاب غياب الأخلاق العقلانية على مقاربتنا العربية لهذه القضية وغيرها مما يحمل صفة المصيري من شؤوننا.
فأي خطاب هذا الذي دأب القوميون والإسلاميون على ترديده في ما يخص فلسطين شعبًا ووطنًا؟ الركن الأساس في خطاب القوميين قام على ثلاثية الوحدة والتحرر والثأر، مع ما يحمل الركن الثالث من دلالة على مستوى الخطاب الأخلاقي لتيار لامس في خطابه حدود الشوفينية، فارتكز بذلك على الموروث الأخلاقي للبداوة والمرتبط بالكرامة والذود عنها عبر ممارسة بدائية تقوم على تغليب القانون القبلي على ما عداه. وعلى الرغم من التغير الذي أصاب هذا الخطاب مع المرحلة الناصرية، فإن الأخلاق التي ارتكز عليها اللاوعي الجمعي العربي عزز الرابط بين الثأر من جهة والموروث الديني من جهة ثانية. لذلك كان من السهل على حركات الإسلام السياسي أن ترث لواء القضية الفلسطينية وأن تحمّل خطابها أحكامًا أخلاقية تعيد الصراع إلى لحظة ترتبط بتناقض أخلاق دينية مع ما تراه لا دينية في أخلاق الآخر.
لذلك فإن استعادة البعد الأخلاقي في هذا الصراع تعني استرداده إلى الحيز الذي يتجاوز محمولاته القومية والدينية التي أثقلته طويلاً، وهو بذلك يعود إلى المكان الذي غادره طويلاً، إلى المربّع المرتبط بحق الشعوب في التحرر وتقرير المصير، فتخرج بذلك القضية الفلسطينية من جلباب القومية والأصولية، وصراع الأخلاق الدينية المتضادة في ما بينها، كي تدخل من بوابة الأخلاق إلى الدولة. ولا يكون هذا الأمر إلا عبر إفراد حيز أخلاقي في مقاربة قضية المقاومة كفعل يسعى إلى قيام دولة مع ما يعني ذلك من تحرير شعب تائه بين سلطات الاحتلال وسلطات الأمر الواقع وسلطات الفصل العنصري العربية التي أسكنت اللاجئين وراء أسوار مخيمات لعلها بحجب رؤيتهم عن أنظارها تحجب وجودهم نفسه.
المقاومة فعل أخلاقي. نعم، ولكن دون تحقق الأخلاقي شروطٌ أولها احياء السياسة بما هي تقاطع بين المقاومة والهدف من ورائها، أي قيام مشروع تحرري وطني اجتماعي يرتكز على أسس عقلانية تسعى إلى بناء دولة حديثة، ثانيها اعتراف متبادل بإنسانية الآخر، بذاكرته المرتبطة لدى الفلسطيني بالنكبة والنزوح وتاريخ مديد على هذه الأرض، ولدى الإسرائيلي باللحظة التأسيسية لقيام كيانه والمرتبطة لا بالذاكرة التوراتية بل بذاكرة المحرقة. فترهات نفي المحرقة تنفي الأخلاقي فينا، وتنفي مطالبتنا الآخر بالاعتراف بمحرقتنا. ففلسطين لا تختزل بقضية دينية وقومية من جهة أو بقضية لاجئين وأرض سليبة من جهة أخرى. هي أبعد من ذلك. هي معركة اعتراف أخلاقي بالفلسطيني كإنسان يملك تاريخًا وذاكرة وحاضرًا بما يخوّله أن يؤسس عليها مستقبله، أي وجوده أولاً، وعدالة قضيته ثانيًا، ودولته أخيرًا. فالشرط الأول هو الاعتراف بوجود الفلسطيني كذاكرة وتاريخ وقضية أخلاقية، وهذا الاعتراف لا يُطالَبُ به الإسرائيلون والغربيون فقط بل الدول العربية أيضًا التي لا ترى مجمل أنظمتها في القضية الفلسطينية سوى ورقة مساومة وتفاوض تُخرجها من أدراجها كلما لاحت في الأفق مواعيد إبرام الصفقات الإقليمية والدولية.
أخلاق "يونيفرسال"
إذا كانت إشكاليات الفلسفة لا تتبلور إلا مع سكون الليل، فإن سؤال الأخلاق لا يمكن أن يطرح إلا في صخب النهار، حين يتبدى عقم ما يحكمنا من قيم وانحطاط سياسة تسوس الناس إلى مصائر ملحمية. لذلك يقفز سؤال الاخلاق وشروط تأسيسها إلى صدارة الإشكاليات. لكن هل أذنت الساعة، وهل ولى أوان الحديث عن تأسيس الأخلاقي فينا، أم لم يحن موعده بعد؟ ربما الاثنان معًا. لكن قبوعنا تائهين بين أخلاق الغيب وأخلاق الحاضر يقتضي، لا بل يفرض، طرح إشكالية أخلاق تقوم على العقل كمصدر لكل قيمة حياتية. أخلاق تحمل صفة الـ"يونيفرسال"، عساها تفلح في أن تكف عنا صراع الآلهة، وتنجح في كتابة معادلة جديدة عنوانها: تأسيسٌ عقلاني للأخلاق يستعيد الإنساني فينا
________________________________________
بعيدا من غواية نيتشه واغراء الفلسفة المستقبلية التي حمل تباشيرها وأشعرنا من خلالها بخواء ما نؤمن به من قيم أخلاقية تستبد بالعقل والطبيعة، لا يمكننا تصور عالم خال من مفهومي الخير والشرّ، وتأسيسًا عليهما إبداع مفاهيم فلسفة الأخلاق وتجلياتها النظرية وتجسداتها العملية. فالقتل والسرقة والاستبداد وغيرها من أفعال وقع عليها حكم التصنيف في باب الشرّ، لا تحتاج إلى عمق استدلال وكبير استقراء لتبيان موقعها في أي منظومة أخلاقية حكمت أو تحكم، سابقًا وحاضرًا، جمعًا من البشر. لكن بديهية الخير والشرّ لا تبدو في راهن واقعنا قانونًا يصح فيه وصف الـ"يونيفرسال"، فالمواقف الميؤوس منها عادةً ما تستدعي أفعالاً ميؤوسًا منها، ولأن واقعنا مصادر لأفعال اليأس فمن البداهة أن ينسحب الأمر على جملة القيم الأخلاقية التي تحكم تصرفاتنا.
إذا كان الفكر السياسي قد شكّل العنوان الأول الذي احتل مجمل مساحات التفكر الغربي في النصف الثاني من القرن المنصرم، فإن الضرورة أعادت مسألة الأخلاق، علمًا وفلسفة، إلى التداول، مفرِدةً لها حيزًا كبيرًا من المناقشة. فتاريخ الأخلاق، الذي قطع دربًا شاقة منذ أرسطو وأخلاق الفضيلة والسعادة وصولاً إلى أخلاق الواجب مع كانط، سلك دروبًا متعرجة ووعرة أثناء محاولاته تلمس خطواته تأسيسًا للاستقلال عن كل ما هو خارجي عنه من لاهوت وميتافيزيقا وطبيعة. لكن نكوصًا عن هذا التوجه، تبلور مع سيادة النظرة الغائية التي تستمد جذورها من مماهاة أبيقور بين اللذة والمنفعة الفردية، ورسخ جملة اتجاهات فكرية نادت بالمنفعة ومن ورائها السعادة لترسيم حدود الأخلاق وما يأتي دونها، واعتمدت في سعيها هذا على نتائج الأفعال كمقياس للأحكام، فكانت نتيجة ذلك واقعًا مأزومًا يقيم في الحيز المشترك بين السياسة والأخلاق.
من هنا كانت الحاجة ماسة إلى تأسيس عقلاني لفلسفة أخلاق تسعى لاسترداد السؤال الأخلاقي من المؤثرات الخارجية وتعيده إلى عناصره الداخلية، حيث لا تكون الطبيعة والقواعد والنظم الاجتماعية أو حتى العوامل النفسية هي معيار سلوكنا بل المبادئ العقلية الباحثة عن قانون أخلاقي كلي. فالأخلاق لم تعد سعيًا إلى سعادة، أيًّا يكن شكلها، ولا سيما أن علم النفس كان قاطعًا في هذا المجال عندما اعتبر أن السعادة ليست قيمة حضارية، بمعنى أنها تقوم على فعل التقنين لا الإباحة، الحصر لا السعادة. لذلك لا مناص من سعي دؤوب لإعادة تعريف الأخلاق فلسفيًا بالعودة إلى أخلاق الواجب، المستوحاة من المثلث الأخلاقي الكانطي، المؤسس على العقل والقائم على معاملة الإنسانية كغاية لا كوسيلة بحيث يكون الفاعل ذاتًا مستقلة والفعل قاعدة صالحة عقليًا لأن تكون قاعدة كلية. جملة قواعد ينبغي للسلوك الأخلاقي أن يأخذ بها وفق ما يمليه عليه الواجب ومن ورائه الإرادة الخيّرة، بمعزل عما عداهما. وهو ما يؤسس للبحث في شروط قيام أخلاق عامة مشتركة بين البشر، بعيدًا من المعتقدات الخارجية لكل فرد ولا ترتكز على حقائق قائمة في ذاتها بمعزل عن المبادئ العقلية السابقة على التجربة.
الواجب والإرادة الخيرة
تعود الحاجة المستجدة لإعادة تأسيس الأخلاق وفق مبدأ الواجب والإرادة الخيّرة، إلى عدم صمود الأخلاق المبنية على المنفعة أمام جملة امتحانات أدت إلى سقوطها أخلاقيًا، وأبرز تجسدات هذا السقوط موضوعة العنف وتبرير استخدامها من خلال ما يسمّى الحروب العادلة. فمفهوم الحرب العادلة الذي نطق به للمرة الأولى المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس معتبرًا أن "كل حرب ضرورية هي حرب عادلة"، ساهم في إضفاء طابع أخلاقي على الحروب والنزعات التوسعية والاستعمارية. فتحت شعار الضرورة والمنفعة، اندرجت في التاريخ، قديمه ومعاصره، محاولات توسع دول وقمع شعوب، وبذلك أضحت المحافظة على النفوذ الحيوي لنظام ما في الإقليم الذي ينوجد فيه أو الامساك بالسلطة والذود عن أركانها، عوامل مركزية في صوغ قواعد الأخلاق وتأويلها، ما شرّع الباب أمام سياق طويل من الحروب المؤسسة على فكرة الضرورة. فالعدوان على المستوى النظري والعملي، لم يصبح جريمة إلا مع نهاية الحرب العالمية الأولى، على ما كتبت حنة أرندت. لكن الحرب العالمية الثانية، وتاليًا عليها قسمة العالم معسكرين، أعادتا طرح إشكالية الحروب والإبادة الجماعية والاستعمار في وجهة أربكت كل مقاربة أخلاقية في العلاقات الدولية. فتارة تحت شعارات إنسانية واجتماعية، وطورًا تحت عنوان نشر الديموقراطية أو الثورة، تم التأسيس لتجاوز الأخلاقي في السياسة بما يصل إلى حد ارتكاب أفعال الإبادة البشرية بذريعة وقف الحرب، على ما يذكّرنا به التاريخ غير البعيد لمدينتي هيروشيما وناكازاكي. ففرضت بذلك الضرورة شروطها على الأخلاق، وأصبح مبررًا دعم أنظمة استبدادية لحماية الأمن القومي لدولة من الدول أو توفير الغطاء لارتكاب فعل لا أخلاقي في حق شعب من شعوب، لرفع الظلم والحيف عن شعب آخر. تضاف إلى ذلك استنسابية تطبيق المعايير الأخلاقية في علاقات الدول، ودائمًا تحت شعار الأخلاق وما ينبع وينتج منها من معايير وقيم، تم تسويق حروب ضد الإرهاب تمارس ما تدّعي سعيها للقضاء عليه. ثمة إشكالية أساسية تطرح في هذا السياق ترتبط بمفهوم الحرب العادلة في ذاته ومآلاته المتعددة. فنهاية حرب عادلة قد لا تكون عادلة، والأهم أن حروبًا عادلة تخاض بأسلوب يُفقد القضية التي تدافع عنها عدالة تسعى لانتزاع الاعتراف بها، ناهيك بأن كل الحروب تبدو عادلة بالنسبة إلى أحد أطرافها على الأقل. فمفهوم الحرب العادلة ساهم في محاولة اضفاء نسبية في التأسيس الأخلاقي للسياسة، فخرجت عقلانية الأخلاق بذلك عن شرطها الأول، اعتبار الإنسانية غاية لا وسيلة، وهو ما سيقود إلى سقوط أخلاقي عاصرنا آخر تجلياته في المرحلة الآفلة لشرطي الأخلاق العالمي جورج بوش، وهذا ما أدى إلى تعثر أخلاقي لبعض "الغرب"، لا في علاقاته الداخلية مع مواطنيه أو في ما بين دوله، بل مع الآخر البعيد عن المركزية التي أقيم عليها البنيان السياسي الغربي. أضحى الضد يستدعي الضد في المواجهة العالمية للإرهاب، بينما نتيجة المعادلة تحيل على شبيه يُعرّّف بشبيهه.
السياسة والأخلاق والواقع العربي
أما بالنسبة إلى واقعنا، فإن الإشكالية أكثر تعقيدًا، فثمة شيء في مقاربتنا للسياسة لا ينتمي إلى السياسة، وثمة شيء في أخلاقنا السائدة لا ينتمي إلى الأخلاق. هكذا هي حالنا، لا فعل السياسة سياسي ولا حكم الأخلاق أخلاقي، طالما أن ارتكاز الحكم قام دائمًا على بعد ايديولوجي نهل تارة من أفكار قومية تلامس حدود الشوفينية، وتارة أخرى تحاكي الغيب في التعامل مع إشكاليتي السياسة والأخلاق. فإذا كانت السياسة محكومة بأساطير الماضي وأشباح الحاضر، فإن الأخلاق الناظمة لعمل السياسة لا يمكن أن تتحرر من مقاربة كهذه. فصراع الآلهة انعكس صراع أخلاق متضادة ومتعددة تعدد الرؤى الأيديولوجية التي تسوسنا لا منذ النهضة المؤودة حتى يومنا هذا بل تعود إلى تاريخ يضرب عميقًا في الجذور الثقافية للمنطقة. صحيح أن مفهوم القتل، على سبيل المثال، واحد، وعاقبته الأخلاقية واحدة، لكن الإدراج ضمن هذا الوصف يختلف بين ثقافة وأخرى. فالقتل باسم الإله يصبح مبررًا في أخلاق تمجد "الشهادة" وتقدم النقل على العقل، وتلغي الكتب لحساب الكتاب، وتحتقر الرغبة واللذة باسم ما هو متعالٍ، ممجِّدةً الروح ومُحطّةً من شأن الجسد. فما يحكمنا هي أخلاق الطاعة على ما يذهب إليه الجابري: الطاعة للإنتماءات الأولية، القبلية والعشائرية والطائفية، أي الإنتماءات القبل دولتية والمتجلية لا في السياسة فحسب بل في شتى الميادين، من اجتماع وثقافة ولاوعي جمعي. لكن أخلاق الطاعة هي أحد ركني ثنائية ساهمت في تشكل معايير الأخلاق العامة التي تحكمنا، فهذه الأخيرة نهلت من رافد ثان، وسواء أكان الأمر على نحو واع أم لا واع، فإن ما جرى التماثل معه بالإضافة إلى أخلاق الطاعة هي نسخة مبتسرة من أخلاق المنفعة تقطع مع المحدث من هذه النفعية التي انتقلت غربيًا من اطار المنفعة الفردية إلى منفعة عامة من خلال مساهمات جون ستيوارت ميل وبنتام. لكن ما جرى التماثل معه في قواعدنا السلوكية هو نمط من أنماط المنفعة التي لا ترى ضرورة في الإلزام والواجب بقدر ما تسعى إلى تحقيق المنفعة الفردية. وبذلك تم الجمع بين مستويين، الأول يرتبط بالموروث السياسي للعهود الإسلامية الأولى والمتعلق فقهيًا بإشكالية عدم جواز الخروج على فاعل الكبيرة وتقديم الطاعة له، والمستوى الثاني يرتبط بأخلاق المنفعة في نسختها الفردية. لكن هذا الحضور الضمني للأخلاق سواء ارتبطت بالطاعة أو المنفعة الفردية يبقى متناقضًا مع أي تأسيس عقلاني للأخلاق في ميدان الاجتماع والثقافة والسياسة. فالعقلانية المرتبطة بالإرادة الخيّرة وفق المنطوق الكانطي، لا يمكن أن تعامل الإنسانية إلا كغاية لا كوسيلة، وهذا ما يغيب عن مجتمعاتنا وكيفية تعبيرها عن نفسها سياسيًا. ولأن التعبير الأبرز عن الحالة السياسية العربية ارتبط منذ عقود برطانة خطاب يردَّد عن القضية الفلسطينية، فلا مناص من انسحاب غياب الأخلاق العقلانية على مقاربتنا العربية لهذه القضية وغيرها مما يحمل صفة المصيري من شؤوننا.
فأي خطاب هذا الذي دأب القوميون والإسلاميون على ترديده في ما يخص فلسطين شعبًا ووطنًا؟ الركن الأساس في خطاب القوميين قام على ثلاثية الوحدة والتحرر والثأر، مع ما يحمل الركن الثالث من دلالة على مستوى الخطاب الأخلاقي لتيار لامس في خطابه حدود الشوفينية، فارتكز بذلك على الموروث الأخلاقي للبداوة والمرتبط بالكرامة والذود عنها عبر ممارسة بدائية تقوم على تغليب القانون القبلي على ما عداه. وعلى الرغم من التغير الذي أصاب هذا الخطاب مع المرحلة الناصرية، فإن الأخلاق التي ارتكز عليها اللاوعي الجمعي العربي عزز الرابط بين الثأر من جهة والموروث الديني من جهة ثانية. لذلك كان من السهل على حركات الإسلام السياسي أن ترث لواء القضية الفلسطينية وأن تحمّل خطابها أحكامًا أخلاقية تعيد الصراع إلى لحظة ترتبط بتناقض أخلاق دينية مع ما تراه لا دينية في أخلاق الآخر.
لذلك فإن استعادة البعد الأخلاقي في هذا الصراع تعني استرداده إلى الحيز الذي يتجاوز محمولاته القومية والدينية التي أثقلته طويلاً، وهو بذلك يعود إلى المكان الذي غادره طويلاً، إلى المربّع المرتبط بحق الشعوب في التحرر وتقرير المصير، فتخرج بذلك القضية الفلسطينية من جلباب القومية والأصولية، وصراع الأخلاق الدينية المتضادة في ما بينها، كي تدخل من بوابة الأخلاق إلى الدولة. ولا يكون هذا الأمر إلا عبر إفراد حيز أخلاقي في مقاربة قضية المقاومة كفعل يسعى إلى قيام دولة مع ما يعني ذلك من تحرير شعب تائه بين سلطات الاحتلال وسلطات الأمر الواقع وسلطات الفصل العنصري العربية التي أسكنت اللاجئين وراء أسوار مخيمات لعلها بحجب رؤيتهم عن أنظارها تحجب وجودهم نفسه.
المقاومة فعل أخلاقي. نعم، ولكن دون تحقق الأخلاقي شروطٌ أولها احياء السياسة بما هي تقاطع بين المقاومة والهدف من ورائها، أي قيام مشروع تحرري وطني اجتماعي يرتكز على أسس عقلانية تسعى إلى بناء دولة حديثة، ثانيها اعتراف متبادل بإنسانية الآخر، بذاكرته المرتبطة لدى الفلسطيني بالنكبة والنزوح وتاريخ مديد على هذه الأرض، ولدى الإسرائيلي باللحظة التأسيسية لقيام كيانه والمرتبطة لا بالذاكرة التوراتية بل بذاكرة المحرقة. فترهات نفي المحرقة تنفي الأخلاقي فينا، وتنفي مطالبتنا الآخر بالاعتراف بمحرقتنا. ففلسطين لا تختزل بقضية دينية وقومية من جهة أو بقضية لاجئين وأرض سليبة من جهة أخرى. هي أبعد من ذلك. هي معركة اعتراف أخلاقي بالفلسطيني كإنسان يملك تاريخًا وذاكرة وحاضرًا بما يخوّله أن يؤسس عليها مستقبله، أي وجوده أولاً، وعدالة قضيته ثانيًا، ودولته أخيرًا. فالشرط الأول هو الاعتراف بوجود الفلسطيني كذاكرة وتاريخ وقضية أخلاقية، وهذا الاعتراف لا يُطالَبُ به الإسرائيلون والغربيون فقط بل الدول العربية أيضًا التي لا ترى مجمل أنظمتها في القضية الفلسطينية سوى ورقة مساومة وتفاوض تُخرجها من أدراجها كلما لاحت في الأفق مواعيد إبرام الصفقات الإقليمية والدولية.
أخلاق "يونيفرسال"
إذا كانت إشكاليات الفلسفة لا تتبلور إلا مع سكون الليل، فإن سؤال الأخلاق لا يمكن أن يطرح إلا في صخب النهار، حين يتبدى عقم ما يحكمنا من قيم وانحطاط سياسة تسوس الناس إلى مصائر ملحمية. لذلك يقفز سؤال الاخلاق وشروط تأسيسها إلى صدارة الإشكاليات. لكن هل أذنت الساعة، وهل ولى أوان الحديث عن تأسيس الأخلاقي فينا، أم لم يحن موعده بعد؟ ربما الاثنان معًا. لكن قبوعنا تائهين بين أخلاق الغيب وأخلاق الحاضر يقتضي، لا بل يفرض، طرح إشكالية أخلاق تقوم على العقل كمصدر لكل قيمة حياتية. أخلاق تحمل صفة الـ"يونيفرسال"، عساها تفلح في أن تكف عنا صراع الآلهة، وتنجح في كتابة معادلة جديدة عنوانها: تأسيسٌ عقلاني للأخلاق يستعيد الإنساني فينا
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى