مفهوم الجمال بين التصور الفلسفي والنقدي
مفهوم الجمال بين التصور الفلسفي والنقدي
مفهوم الجمال بين التصور الفلسفي والنقدي
رغم قدم الدراسات التي اهتمت بموضوع الجمال بحثا وتنظيرا، فإنه ظل مدار اختلاف وتباين في الفهم بين الدارسين على مستوى إدراكه وتقديره، والسبب في ما نعتقد يرجع إلى خضوعه لشبكة معقدة من العلاقات، يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، المادي والمعنوي، الحسي والمجرد، مثلما يرجع إلى كونه يرتبط على صعيد الإدراك بآليات بشرية غامضة، يصعب رصد كيفية اشتغالها. وقد وقف المنظرون والدارسون إزاءه مواقف مختلفة، متسـائلين عن حقيقته، أهو معطى موضـوعي، عيني وقائم خارج الذات المدركة، أم يتوقف وجـوده على الإدراك ؟ أم لا هـذا ولا ذاك، ولكنه حقيقة موضـوعية، يعد إدراكها نوعـا من الجمال.
فأما الذين قالـوا بكون الجمال ظـاهرة موضوعية، يستقبلها الذهن ويعمل على إبرازها، فقد نظروا إليه كوجود مستقل، قائم خارج الوعي الإنساني، ويحمل مظاهره وسماته التي يتميز بها ويكتسي وجودا نوعيا. ولعل الجوانب المادية هي التي استهوت هؤلاء في نظرتهم للجمال، إذ لم يروا للإنسان فيه أي دور سوى مجرد الإظهـار، وأما الذين ربطوا الجمال بالإدراك، فقد ركزوا على عملية التلقي، باعتبار ما لها من دور في تفسيره وإعطائه معنى، حيث لا وجود للجمال ولا حقيقة له في غياب الإدراك، وهو الرأي الذي قـال به الفيلسـوف وعـالم الجمال كـانط، حين رأى أن لا حقيقة موضـوعية للجمـال، ما دام معياره الذوق[1]. وقد أكد نفس المعنى جان كوهن، حين اعتبر الجمال ليس معطى موضـوعيا مستقلا عن الذات المدركة، ولكنه يكمن في الشعـور، أو في قدرته على إيقـاظ الشعـور بالجمـال، ذلك أنه لا قيمة عنده لأي شكل إلا في الإحسـاس به[2].
أما الرأي الثالث فقد زاوج بين الجمال كمـوضوع مستقل وبين الذات المدركة، منطلقا من كون الحقائق الموضوعية مهما بلغت، لا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال تفاعل الذات معها، من خلال الوعي الإنساني وما له من دور في تفسير حقائق الوجود، ومن خلال التأثير الذي تمارسه أشياء العالم على الوعي الإنساني، فالجمال ليس مجرد خاصية تستبطنها الأشياء، بل يتضمن إحالة على الذهن البشري الذي يدركه[3].
وإذا كانت وجهة النظر الأولى قد ألغت دور الذات في تحديد الجمال، فإن الذي استقطبها وحصرت اهتمامها فيه هو الجمال الطبيعي الذي تعتبر آفاقه محدودة بالنسبة للإبداع، ما دام يجعل محاكاة الواقع سقفا تحد عنده اجتهادات المبدعين، إذ لا يمكنهم مهما أبدعوا أن ينتجوا صورا أجمل منه، لأنهم سيكونون حتما حبيسي النموذج. وربما كان ذلك هو السبب الذي دفع هيجل إلى اعتبار الفن الذي ينحو هذا المنحى لا يقدم سوى صورة كاريكاتورية للواقع [4]، وهو نفس الحكم الذي ينطبق على المحاكاة كما أشار إليها أفلاطون، لأنها تتعلق بمحاكاة الواقع الذي يعتبر بذاته محاكاة لواقع أسمى، وقيمة الفن الدونية يستمدها من علاقته بهذا الواقع.
وعلى خلاف ذلك فوجهة النظر الثانية قصرت الجمال على الإدراك، لتربطه بالجانب الشعوري للإنسان، ولم تعر اهتماما للجوانب الموضوعية المادية فيه، لكونها معطيات طبيعية لا دخل للإنسـان والفن فيها. غير أن وجهة النظر هذه واجهت مجموعة من الأسئلة، جعلت موقفها لا يخلو من اضطراب، من مثل : لماذا تختلف الإثارات والتأثيرات على الرغم من وحدة المظاهر الجميلة المثيرة ؟ ولماذا يختلف الجمال ويتنوع، بحيث يترك كل لون منه نوعا خاصا من التأثير واللذة فينا ؟
إن مدركات الفرد في هذا التصور لا يمكنها أن تحيط بالجمال، لكونها تخضع لمجموعة من العوامل الفيزيولوجية والسيكولوجية والتربوية. أما وجهة النظر الثالثة التي زاوجت بين الذات والموضوع في النظر إلى الجمال، فإنها ربطت الجمال بمجموعة من الشروط، يظل وجوده متوقفا عليها، معتبرة الموضوع غير ذي قيمة فنية وجمالية في غياب الذات المدركة، مثلما أنه لا وجود للذات من غير موضوع يظهرها لذاتها[5]. وهذه الشروط بعضها موضوعي قائم في ذات الموضوع، ويدركه المتلقي اعتمادا على آليات الإدراك الحسية أو العقلية، وبعضها ذاتي يرتبط بالتأثير الذي يتركه الجمال في الإنسان[6].
إن الاختلاف الذي حصل حول مفهوم الجمال، في ما نعتقد يرجع إلى عاملين أسـاسيين : أحدهما يتعلق بالأسس النظرية والتوجهات الفكرية المختلفة التـي يستند إليها البـاحثون في الجمال ودارسوه، والثاني مرتبط بالإدراك وما يتحكم فيه من آليات، فتاريخ علم الجمال يؤكد قيام صراع مرير بين النظريتين المـادية والمثـالية حول الجمال، حيث كان الماديون يعتبرون الظواهر الجمالية ذات أساس موضوعي كامن في الطبيعة وفي حيـاة الإنسان، في حين كان المثاليون ينظرون إلـى الظواهر الجمـالية على أنها ذات منشإ روحي[7].
وعن هذين الاتجاهين تفرعت عدة توجهات في دراسة الجمال، دون أن تراوح البحث في الجانب المادي أو المعنوي فيه. فقد نظر إليه أفلاطـون نظرة ميتـافيزيقية، وربطه بالمطلق حين اعتبره مثالا من المثل العليا كالحق والخير، وركزت المسيحية في العصور الوسطى على الجانب الروحي منه[8]، كما أن الإسلام أعطى للجدانب الروحي في الجمال أهمية بالغة، ودعا الإنسان في مواقف شتى إلى التأمل في مختلف الكائنات وما يخضع له تكونها وصنعها من إبداع، معتبرا ذلك دليلا على مبدع الخلائق وصانع الوجود، وعلى قدرته وعظمته.
أما الفيلسـوف هيجل فقد اعتبر الجمـال هو التجلي المحسوس للفكرة [9]، وقد أكد في ذلك على أهمية إضفاء الخصوصية الإنسانية على الأشياء المادية، لأن الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي، باعتباره انعكاسا للروح، والروح عنده أسمى من المادة.
ونظرت المـاركسية إلـى الجمـال كتمثيل للنشـاط الإبداعي العملي والغرضي للإنسـان، وفـي هـذا النشـاط يتمثل جوهر الإنسـان الاجتمـاعي وقواه الإبداعية الهـادفة إلـى تحويل الطبيعة والمجتمع[10]. واهتم الفيلسوف ديكارت بالزاوية الحسية والعقلية في الجمال، في حين انصرف بعض الفلاسفة الآخرين إلى البحث في الجوانب السيكولوجية، ليعتبروا الجمال وسطا بين الميول المنفعلة والفاعلة. ولم يستطع أي اتجاه من هذه الاتجاهات أن يحسم الأمر لصالحه.
وإذا كان الدارسون قد أولوا أهمية كبرى لإدراك الجمال، فقد أدركوا صعوبة تحقيق اتفاق حول القواعد الموضوعية التي يمكن أن يحدد على أساسها، وأصبحت مسألة إيجاد مقاييس نهائية ومطلقة شيئا غير ممكن، لكون المشاعر والأحاسيس الباطنية التي لها دور مهم في إدراك الجمال، ليست مشتركة ولا محط اتفاق بين البشر، ويزيد الأمر صعوبة انتماؤها للعوالم الداخلية المجهولة لدى الإنسان. كل ذلك لا يتيح إصدار أحكام موضوعية كلما تعلق الأمر بتقييم الإنتاجات الجمالية التي لا تنتظم وفق قواعد محددة وصارمة.
غير أن صعوبة الاتفاق حول إدراك الجمال تعود إلى مجموعة من العوامل تتحدد على أساسها خصوصية الإدراك. ومن هذه العوامل ما يلي :
ـ الموروث الثقافي والحضاري وما له من دور في توجيه الوعي الثقافي والفني للإنسان.
ـ مستوى خبرة الفرد وتجاربه، ودرجة احتكاكه بالأعمال الفنية، وما لذلك من أثر في صقل المعرفة والقدرات الإدراكية.
ـ طبيعة التربية التي يخضع لها الذوق والإحساس.
ـ الجانب الفيزيولوجي،لا سيما الحواس منه، باعتبارها نافذة الإنسان على العالم الخارجي، حيث الإدراك السليم لما هو حسي يقتضي سلامتها.
ـ الجانب السيكولوجي المتعلق بالمشاعر الباطنية للفرد التي تعكسها النزعات والميول.
ـ القدرات والملكات التي يكتسبها الإنسان وينميها عن طريق مختلف الأنشطة التي يمارسها في حياته[11].
ـ ذوق العصر والذكريات الفنية للمدرك.
ـ المستوى المعرفي والثقافي للفرد.
ـ المعتقدات والقيم التي تحيط بالإدراك.
ـ الاستعدادات والتاريخ الشخصي للفرد[12].
ويقف التصور المادي للجمال موقفا مخالفا لهذا، فيرى أن الوجود الموضوعي للجمال هو المؤثر في الإدراك، وليس العكس، لأن الصفة الجمالية في هذا التصور تملك وجودها الموضوعي، ولا تكتسبه من التقييم الجمالي للمدرك، بل إن سلامة التقييم الجمالي تقتضي وجودا موضوعيا للجمال[13].
إن الاختلاف حول الجمال وحول عوامل إدراكه كان لها الأثر البالغ على توجه النقاد، وعلى اعتمادهم في تحديده على الذوق، مع ما نتج عن ذلك من صعوبات في وضع قواعد نظرية وضوابط يتم الاحتكام إليها في فهمه وتفسيره، ذلك أن أحكام الذوق ذات طبيعة ذاتية في كثير من وجوهها، وتستند في غالبيتها إلى الانطباع الذي يحصل للمرء حول الموضوع، مما يجعل تعليلها أو تبريرها صعبا. فهي لا تستند إلى أسس علمية، ولا تبنى على براهين أو حجج منطقية، خاصة إذا كان صاحبها لا يملك تصورا نظريا يبني عليه أحكامه، ويهتدي به في مواقفه وتقييماته. ولعل الرغبة في تخطي هذه الإشكالية هي التي حفزت النقاد على التفكير في إيجـاد معـايير موضوعية تتناسب وخصوصية الجمال، ولا يشذ في ذلك عن باقي الإنتاجات الفكرية التي استطاع أصحابها أن يضبطوها بالتقعيد العلمي البعيد عن التفسيرات الميتافيزيقية، أو تلك التي تحكمها الأهواء والنزعات.
مقومات الجمال
تحديد مقومات الجمال لا ينفصل عن فهم الجمال وإدراكه، لذلك اختلفت وجهات النظر في تحديد هذه المقومات : فمن مركز على المقومات الذاتية المرتبطة بالوجود الموضوعي للجمال، وهذه كانت وجهة نظر الدين اهتموا بوجوده المادي والمحسوس، حيث رأى بعضهم أن الجمال هو ذلك الشيء " الذي يتسم بالتناسق والانسجام والتوافق والنظـام، بحيث ينم عـن معنـى ويكون له مغزى "[14]، وذهب مجاهد عبد المنعم مجاهد إلى أن الجمال يتأسس على مجموعة من المقومات، منها التماثل والتناغم والتوازن، وتعادل مختلف القوى والتدرج والتكرار والتنـاسق[15]. وتلك أمور نجد لها تجليا واضحا في مختلف الإبداعات الإنسانية، ويحققها المبدعون عن قصد ووعي.
أما المعطيات الطبيعية فلا أهمية لها في الفن، لأنها خارجة عن الفعل الإنساني، ومتجهة صوب هدف مختلف عن ما يهدف إليه الجمال الفني، فهي تهدف إلى الحفاظ على النوع وعلى النفس، في حين يكمن الهدف المركزي للجمال الفني في ذاته[16]. وقد أشـار عبد الله الطيب في كتابه "المرشد إلى فهم أشار العرب وصناعتها" إلى حقائق الجمال الحسية التي تدرك بواسطة الحواس، فتحدث في النفس سرورا، معتبرا إياها تدور حول أمرين هما الكل والتفصيل، حيث الكل يتجلى في الشكل والهيئة العامة، أما التفصيل فيتجلى في الألوان ومظاهر الضوء والظلام. والأمران معا يدوران حول الانسجام الذي يحققـان به الوحدة والتوازن. وفـي اجتمـاع كل ذلك يتحقق الجمـال[17]. وكان تأكيده على ذلك من خلال دراسة نماذج شعرية تحقق قيم الجمال المطردة في الثقافة العربية.
ومن مركز في الجمال على مقومات معنوية مرتبطة بالتأثيرات التي تلحق متلقيه، أو منحصرة في وجوده الموضوعي وأبعاده ودلالاته. ومن ذلك الجدة والطرافة والأصالة والاعتدال، والوضوح والصفاء والغرابة والشذوذ، أو بصفة عامة المعاني التي تنتج عن الجمال حينما يكـون "صورة من اتفـاق العقل والحس وبين ما يتخيل وما يرى "[18]. وهناك من ركز في الجمال على ما يترتب عليه من متعة ولذة وإشباع، بحيث تستحسنه النفس وترضى عنه. وتلك أمور لا يمكن حدوثها إلا إذا تجاوب الشعور الإنساني مع الموضوع الجمالي في بعض جوانبه أو كلها.
على أن هناك من نظر إلى الجمال في بعده الاجتماعي، فاعتبر الجميل هو كل ما يستجيب للممارسة الاجتماعية للإنسان، ويستند إلى الصفات الطبيعية للشيء، بحيث طبيعة الوجود الاجتماعي للفرد هي المتحكم الأساسي في إدراكه الجمالي. ولعل هذا الرأي يسير في ركب التصور المادي المـاركسي الذي يعتبر الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي. وقد قال به كثير من النقاد المؤمنين بالماركسية كمذهب فلسفي، من خلال نظرتهم للحكم الجمالي على أنه نتاج سوسيوثقافي يصدر عن الإنسان كنتيجة حتمية لعلاقته بمحيطه الاجتماعي، إذ الذي لا يحمل ثقافة عالية، لا يتوقع منه أن يصدر أحكاما جمالية سامية ونبيلة.
وأما الانشغال بالشكل الفني كمجال لتجلي الجمال في الأدب، فلا ترى فيه الماركسية سوى نوع من العجز عن تحمل تعقيدات الحياة، وسعي إلى طمس حقيقة الواقع، عبر الدعوة إلى استقلالية العمل الأدبي. وموقف مثل هذا لا يمكن أن يتسم بالبراءة، لأن مهمة التعبير الجمالي تقتضي الإشارة إلى الواقع بإظهار ما يحمله من تناقضات.
إن موقف الماركسية من الجمال يرتبط بتصورها الفلسفي العام للفن، والذي تعتبره فيه جزء من البنية الفوقية، ومن ثم فهو يملك صلة بالقاعدة الاقتصادية، ويقترن لذلك بتطورها.
إن مـا يحمله الجمـال مـن مقومـات متعددة يجعل تحديده أمرا نسبـيا، سيما وأنه ذو صلة واضحة بالقيم التي يضمرها، وبالمعـاني التي يراد له أن يتضمنها. فهي معـان تتسم بالتعدد، يخضع إدراكها لمعطيـات الثقـافة الاجتمـاعية والقيمية للفرد، فضلا عن كون النظر إليه يخضع للأدوار المختلفة التي يتوقع منه تأديتها، وهي أدوار لا يمكن حصرها في اللذة والمتعة، كما دأبت العديد من الاتجاهات المثـالية أن تجعله حبيسا لهمـا، ذلك أنه يقـوم - إلـى جـانب وظيفتي اللذة والمتعة - وبشكل غير مباشر، بوظيفة تربوية، من خلال ما يقدمه من نموذج يريد بها تهذيب النفوس وتربية الطباع، كما يقوم بوظيفة تنفيسية وتطهيرية، حين يخفف من أعباء المتلقي وينسيه مشاعره المكلومة، أو يساهم في حل تناقضاته الشعورية، ويقوم بوظيفة معرفية من خلال ما يقدمه من صور عن الواقع تستوجب من المتلقين التحليل والفهم والتفسير، لتنمي وعيهم ومداركهم.
وإن استحضـار هذه الوظـائف، منفردة أو مجتمعة، ليجعل الجمـال متعدد المقومـات وغنيها، بحيث الاجتهـاد في حصر الجـانب الشكلي منهـا، لن يكون كـافيا في ضبط الجـانب المعنوي الذي يتنوع بتنوع دلالات الجمـال وأهدافه، وهـذا مـا جعل المقومـات الجمـالية تتسم بطـابع التغير والذاتية المرتبطة بمن يحـاول تحديدهـا. على أن الجمال في استعمـالات الدارسين كثيرا ما التبس بالفن ليبلغ حد الخلط أحيـانا لدى المتلقين، وقد حـاول جيروم ستـولنيتزJerome Stolnitz إبراز الفرق بينهمـا في كتـابه " النقد الفني دراسة جمـالية وفلسفية "، إذ اعتبر الفن يشير إلـى إنتـاج موضوعـات، أو خلقهـا عن طريق نوع مـن الجهد البشري [19]، ولذلك يسمى المنتوج عملا فنيا. أما الجمال فإنه " يشير إلى جاذبية الأشياء وقيمتها "[20].
الجمال إذن سمة وميزة يتميز بها المنتوج البشري، ماديا كان أو معنويا، وهذه السمة هي ما يجلب المتذوق ويؤثر فيه، فيملك عليه أحاسيسه بما يحقق لديه من لذة، أما الفن فهو المنتوج المتحقق نتيجة عمل معين، بحيث قد يكون جميلا وقد لا يكون، كما أن الجمال قد يتحقق في الفن وفي غير الفن. ولعل الطبيعة تقدم لنا خير دليل على ذلك، بما تشتمل عليه من مناظر خلابة لا دخل للفن فيها. غير أن الفن في المجال الأدبي لا يذكر إلا ويقترن بالجمال، اعتبارا لكون الغاية التي يسعى إلى تحقيقها هي جوهر الوجود الجمالي، وهو ما فرض على دارسي الأدب ونقاده أن يقرنوا العمل الفني بالجمال، بل إن جوهر أية دراسة نقدية للفن الأدبي مهما كان جنسه أو نوعه، هو البحث في مقوماته الجمالية، لإبراز وظائفها في التواصل الذي يشكل غاية كل مبدع، ومستوى توفق المبدع في حسن استعمالها والإجادة فيها.
خصائص الجمال
يتبين من خلال التعاريف التي حاولت مقاربة الجمال الفني، أو من خلال المواقف والتصورات التي اتخذته موضوعا لها، أنه يتميز بمجموعة من الخصائص والسمات نذكر منها ما يلي :
ـ أنه ذو طبيعة إنسانية، لأن الكائن الحيواني لا يستطيع أن ينتج جمالا.
ـ أنه عمل قصدي وصادر عن الوعي، لأن الإنسان أنتجه بهدف تبليغ رسالة، ولم يكن مجرد ترف فكري، أو سلوك غير إرادي.
ـ أنه يرفض القواعد السابقة على إنتاجه، لأنه سعي في غير نموذج، سوى النموذج الذي لا تكون صورته واضحة تمام الوضوح لدى المبدع لحظة الإبداع، لكنه ينتظم ويبنى وفقا للمتعة التي ينشدها المبدع، وتوجهه في عمله.
ـ يعتبر تعبيرا عن شعور داخلي يتميز بالتدفق والانسياب.
ـ يتضمن أهدافا غير جمالية وغير مفصح عنها، إلى جانب الهدف المركزي الذي يتمثل في تحقيق اللذة والمتعة.
ـ الكثير من معطياته وعناصره غير قابلة للتبرير الموضوعي، نظرا لطغيان الذاتية فيها، وإغراقها في الجوانب المعنوية والباطنية للإنسان.
ـ يقوم على منطق خاص به، مما يجعل منطق الواقع لا يسعف في تفسيره أو الحكم عليه.
ـ يقتضي تقييمه النظر إليه في شموليته، إذ لا قيمة للعنصر الواحد في ذاته، ولأن مختلف عناصره تتجه لخدمة النسق الكلي.
ـ يقوم على الذاتية والفردية أساسا في إنتاجه.
ـ لا تستطيع المعرفة لوحدها أن تنهض به، بل لا بد من الاستعداد الفطري أيضا، والملكات والقدرات الباطنية. فتعلم قواعد الجمال لا يمكن أن تعطي فنانا على الرغم من أهميتها.
ـ المقاييس الأساسية لتحديده تتسم بالطبيعة الداخلية، إذ ينتجها الناقد ساعة العملية النقدية.
الجمال و النص الأدبي
الجمال قيمة من القيم التي يتصف بها الشيء الجميل، وتشكل سمة له حين تتوفر فيه خصائص معينة، أما إدراكه فنوعان :
أحدهما شعوري، وينتج عنه إحساس باللذة والارتياح، أو الرضا والمتعة، ويتعلق الأمر فيه بالجمال المحض، الذي نزهه الفيلسوف إيمانويل كانت عن كل غرض أو منفعة، وتلعب الحواس دورا هاما في إدراكه، لأن اللذة الإنسانية التي تشكل غاية له، تكتسي طابعا مباشرا، ولا تقوم على أي أساس عقلي، بل يشكل الذوق أساسها الوحيد. ونظرا لكون الذوق ذا طبيعة ذاتية، فإن ما يمكن أن يصدر عنه من أحكام حول المواضيع الجمالية، يظل مدار خلاف بين مدركي الجمال وتطبعه النسبية، والسبب في ذلك يعود إلى عوامل مختلفة، عبر عنها "كانت" نفسه حين قال : " لا توجد قاعدة موضوعية يحدد بها الذوق ما هو جميل استنادا إلى تصور، لأن كل حكم صادر عن هذا المصدر هو حكم جمالي، أي مبدأه المحدد هو شعور الذات لا تصور الموضوع. ومن العبث البحث عن مبدإ للذوق يوضح بواسطة تصورات معينة المعيار الكلي للجميل، لأن ما نبحث عنه نحن حينئذ أمرا مستحيلا ومناقضا في ذاته "[21].
الثاني عقلي، ويتعلق بالجمال غير الخالص، وهو الذي عبر عنه "كانت" بالجمال التابع، ويتميز بكونه يفترض تصورا سابقا على الموضوع الذي يراد الحكم عليه، ويستند إلى قواعد موضوعية تشكلت عبر تاريخ الجمال، نتيجة لتراكم خبرات وتجارب معينة في حياة الإنسان، حيث يفضي تحققها في الموضوع إلى إكسابه صفة الجميل، وتنتفي عنه هذه الصفة إذا لم يخضع لتلك القواعد.
وإذا كان النقاد وعلماء الجمال يختلفون حول الجمال، سواء على مستوى طبيعته أو مصدره، أو كيفية تحققه، فإن ذلك يعود إلى اختلاف الأسس الفلسفية المعتمدة لديهم، ولم يكن الجمال في الأدب ليسلم من هذا الاختلاف، نتيجة لكون النقد الأدبي لم يكن يميز جيد الأعمال الأدبية من رديئها، اعتمادا على اللذة التي تحدثها لدى متلقيها، حين يستحسنونها ويرضون عن فنيتها فقط، بل كان يعتمد قواعد مطردة في المجال الأدبي، بعضها يرتبط بالشكل الفني، وبعضها ذو صلة بالمعنى، لذلك نرى أنه من الضروري في الحديث عن الجمال في الأدب أن يؤخذ الجانب المعنوي بعين الاعتبار، لما له من دور في التصور الجمالي للأديب.
وإذا كان الشكل هو المظهر المادي للنص الأدبي الذي يعكس الجانب الجمالي، فإنه لا يكتسي قيمته الجمالية إلا في علاقته العضوية مع المضمون. وقد عير بعضهم عن ذلك بقوله : " قيمة أي نوع من أنواع الفن إنما تتحدد وفقا لملاءمة الشكل المحسوس للفكرة التي يجري التعبير عنها "[22]. على أن إجرائية البحث في الجمال تستوجب أن ننظر في الجانب الشكلي للعمل الأدبي، باعتباره المستوى الذي يعكس الوجود المادي للجمال، وإن كان هذا الجمال لا قيمة له بعيدا عن مضمون يوجهه. فأي معنى إذن يحمل الجمال في النص الأدبي وما هي عناصره؟
يشار بالجمال في الأدب إلى السمات والخصائص التي يحملها النص الأدبي ويتميز بها تعبيره عن غيره من التعابير، بحيث يكون قادرا على إثارة انفعالات المتلقين وعواطفهم، فيحقق لديهم متعة ولذة، وهذه السمات تتحدد في صياغته. لذلك يستدعي كل بحث في الجمال في النص الأدبي أن ينظر الناقد والمتذوق في ما حققه شكله من إضافة إلى النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، وهذا بدوره يستدعي أن يكون المبدع عالما بقواعد النوع الأدبي المطردة، ويتخذها إطارا نظريا يوجه عملية الإبداع، دون أن يضيق عليها، لأن الإبداع الجميل يسعى دائما إلى التجاوز ورفض النمطية.
والإطار الجمالي الذي ينتج في سياق التطور الثقافي والفني، لا يمكنه أن يستقر على وضع معين، مما يجعل المقاييس الجمالية نفسها غير مطلقة، سواء في جانبها الذاتي، أو الموضوعي، حيث قراءة قصيدة تمجد البطولة أو رواية بوليسية لا يمكن أن يترتب عنها نفس الشعور ونفس الاستجابة لدى المتلقين، بل تتدخل في ذلك اعتبارات ذات صلة بتجربة القراء مع هذين الجنسين الفنيين، أو ذات صلة بوضعهم الشعوري، كما أن معايير الجمال في الإبداع الشعري في العصر الحديث ليست هي نفس المعايير عند النقاد القدامى.
الجمال في الأدب يهم الإطار العام للنص الأدبي، وما يندرج تحته من مكونات مختلفة، مثل الألفاظ والتراكيب، والصور والرموز والإيحاءات، وكذا الأصوات والإيقاعات والموسيقى، ولا يكون العمل الأدبي جميلا إلا إذا توفق الأديب في اختيار هذه العناصر، وأحسن استعمالها، بحيث يكون أكثر إبلاغا وقدرة على تمثل القيم البيانية، وأصول البلاغة كما تطرد في الأدب العربي. وهذه قيم جمالية عامة قد تتوفر في جنس أدبي أكثر من غيره. على أن الجمال في الأدب أيضا يهم القيم الفنية التي ترتبط بجنس أدبي معين. فجمالية الرواية مثلا لا تتحقق في اللغة أساسا وإن كانت اللغة لها أهميتها فيها، ولكن تتحقق في العناصر الفنية التي تعتبر مقومات أساسية في الرواية، كالسرد والوصف والأحداث والزمان والمكان وغير ذلك، وجمالية الشعر تتحقق انطلاقا من مقومات نوعية لا بد من توفرها في الشعر، كالموسيقى والوزن والصور والمجازات...ومعنى ذلك أن الجمال في الأدب يتحدد على أساس قواعد النوع والجنس، وإن كانت هناك قواعد مشتركة يحددها علم الجمال للفنون عامة، وتشكل الإطار الذي تتحقق بفضله متعة المتلقي.
نخلص من هذا إلى أن الجمال في النص الأدبي هو الخاصية الجوهرية التي يتميز بها كخطاب عن غيره من الخطابات، مما يجعله مظهرا لأدبية الأدب، لذلك لا فصل بين الأدب كأدب وبين العنصر الجمالي فيه، بل لا يسمى الأدب أدبا إلا إذا كان جميلا، وهو ما يعني أن البحث في عناصر الأدبية في أي نص أدبي هو بحث في الجمال فيه، لأنه يتعلق بالجوانب التي تبرز إضافة المبدع وتحدد تميزه، أما مختلف الآثار المترتبة عنه وردود الفعل عليه، فإنها ليست من الجمال في شيء، ولا تحكمها قواعده، لأنها تخضع لاعتبارات اجتماعية ونفسية بالأساس، وهي بحكم ذلك خارج الجمال المتحدث عنه في النص الأدبي، وإن كانت ذات صلة به.
________________________________________
[1]عبد الله الطيب المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها ج2 دار الفكر العربي بيروت1970 ص485.
[2]جان كوهن بنية اللغة الشعرية.ت.محمد الولي ومحمد العمري.المعرفة الأدبية دار توبقال للنشر ط1/1986 ص 19.
[3]زكريا إبراهيم في إحالة على كاسيرر فلسفة الفن في الفكر المعاصر دار مصر للطباعة القاهرة 1966 ص243.
[4]هيجل(فريدريك) المدخل إلى علم الجمال.ت.جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت ط2/1980 ص35.
[5]محمد زكي العشماوي قضايا النقد الأدبي دار النهضة العربية 1979ص24.
[6]فؤاد مرعي المفاهيم الجمالية مجلة المعرفة السورية عدد247 سبتمبر1982 من ص17إلى ص23.
[7]روزنتال ـ يودين الموسوعة الفلسفية ص280.
[8]روز غريب النقد الجمالي وأثره في النقد العربي دار الفكر اللبناني ط2/1983 ص42.
[9]علي عبد المعطي محمد جماليات الفن المناهج والمذاهب والنظريات دار المعرفة الجامعية الإسكندرية 1994 ص22.
[10]روزنتال ـ يودين الموسوعة الفلسفية ص280.
[11]روز غريب النقد الجمالي وأثره في النقد العربي ص43.
[12]جيروم سولينتز النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية ت.فؤاد زكريا المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2/1981 ص71.
[13]عبد المنعم تليمة مداخل إلى علم الجمال منشورات عين المقالات الدار البيضاء ط2/1987 ص23.
[14]علي عبد المعطي محمد جماليات الفن ص22.
[15]مجاهد عبد المنعم مجاهد تاريخ علم الجمال دار بن زيدون للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ط1/1988 ص39.
[16]جان برتليمي مبحث في علم الجمال.ت.أنور عبد العزيز دار نهضة مصر للطبع والنشر القاهرة ص424.
[17]عبد الله الطيب المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ج2 دار الفكر بيروت ط2 /1970 ص ص488-489-490.
[18]روز غريب النقد الجمالي وأثره في النقد العربي ص32.
[19]جيروم سولنيتز النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية.ت.فؤاد زكريا المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2/1981 ص29.
[20]جيروم سولنيتز النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية ص23.
[21]عبد الرحمان بدوي إمانويل كانت فلسفة القانون والسياسة وكالة المطبوعات الكويتية1979 ص342.
[22]رمضان الصباغ الفن والقيم الجمالية بين المثالية والمادية دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر إسكندرية2000 ص144
رغم قدم الدراسات التي اهتمت بموضوع الجمال بحثا وتنظيرا، فإنه ظل مدار اختلاف وتباين في الفهم بين الدارسين على مستوى إدراكه وتقديره، والسبب في ما نعتقد يرجع إلى خضوعه لشبكة معقدة من العلاقات، يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، المادي والمعنوي، الحسي والمجرد، مثلما يرجع إلى كونه يرتبط على صعيد الإدراك بآليات بشرية غامضة، يصعب رصد كيفية اشتغالها. وقد وقف المنظرون والدارسون إزاءه مواقف مختلفة، متسـائلين عن حقيقته، أهو معطى موضـوعي، عيني وقائم خارج الذات المدركة، أم يتوقف وجـوده على الإدراك ؟ أم لا هـذا ولا ذاك، ولكنه حقيقة موضـوعية، يعد إدراكها نوعـا من الجمال.
فأما الذين قالـوا بكون الجمال ظـاهرة موضوعية، يستقبلها الذهن ويعمل على إبرازها، فقد نظروا إليه كوجود مستقل، قائم خارج الوعي الإنساني، ويحمل مظاهره وسماته التي يتميز بها ويكتسي وجودا نوعيا. ولعل الجوانب المادية هي التي استهوت هؤلاء في نظرتهم للجمال، إذ لم يروا للإنسان فيه أي دور سوى مجرد الإظهـار، وأما الذين ربطوا الجمال بالإدراك، فقد ركزوا على عملية التلقي، باعتبار ما لها من دور في تفسيره وإعطائه معنى، حيث لا وجود للجمال ولا حقيقة له في غياب الإدراك، وهو الرأي الذي قـال به الفيلسـوف وعـالم الجمال كـانط، حين رأى أن لا حقيقة موضـوعية للجمـال، ما دام معياره الذوق[1]. وقد أكد نفس المعنى جان كوهن، حين اعتبر الجمال ليس معطى موضـوعيا مستقلا عن الذات المدركة، ولكنه يكمن في الشعـور، أو في قدرته على إيقـاظ الشعـور بالجمـال، ذلك أنه لا قيمة عنده لأي شكل إلا في الإحسـاس به[2].
أما الرأي الثالث فقد زاوج بين الجمال كمـوضوع مستقل وبين الذات المدركة، منطلقا من كون الحقائق الموضوعية مهما بلغت، لا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال تفاعل الذات معها، من خلال الوعي الإنساني وما له من دور في تفسير حقائق الوجود، ومن خلال التأثير الذي تمارسه أشياء العالم على الوعي الإنساني، فالجمال ليس مجرد خاصية تستبطنها الأشياء، بل يتضمن إحالة على الذهن البشري الذي يدركه[3].
وإذا كانت وجهة النظر الأولى قد ألغت دور الذات في تحديد الجمال، فإن الذي استقطبها وحصرت اهتمامها فيه هو الجمال الطبيعي الذي تعتبر آفاقه محدودة بالنسبة للإبداع، ما دام يجعل محاكاة الواقع سقفا تحد عنده اجتهادات المبدعين، إذ لا يمكنهم مهما أبدعوا أن ينتجوا صورا أجمل منه، لأنهم سيكونون حتما حبيسي النموذج. وربما كان ذلك هو السبب الذي دفع هيجل إلى اعتبار الفن الذي ينحو هذا المنحى لا يقدم سوى صورة كاريكاتورية للواقع [4]، وهو نفس الحكم الذي ينطبق على المحاكاة كما أشار إليها أفلاطون، لأنها تتعلق بمحاكاة الواقع الذي يعتبر بذاته محاكاة لواقع أسمى، وقيمة الفن الدونية يستمدها من علاقته بهذا الواقع.
وعلى خلاف ذلك فوجهة النظر الثانية قصرت الجمال على الإدراك، لتربطه بالجانب الشعوري للإنسان، ولم تعر اهتماما للجوانب الموضوعية المادية فيه، لكونها معطيات طبيعية لا دخل للإنسـان والفن فيها. غير أن وجهة النظر هذه واجهت مجموعة من الأسئلة، جعلت موقفها لا يخلو من اضطراب، من مثل : لماذا تختلف الإثارات والتأثيرات على الرغم من وحدة المظاهر الجميلة المثيرة ؟ ولماذا يختلف الجمال ويتنوع، بحيث يترك كل لون منه نوعا خاصا من التأثير واللذة فينا ؟
إن مدركات الفرد في هذا التصور لا يمكنها أن تحيط بالجمال، لكونها تخضع لمجموعة من العوامل الفيزيولوجية والسيكولوجية والتربوية. أما وجهة النظر الثالثة التي زاوجت بين الذات والموضوع في النظر إلى الجمال، فإنها ربطت الجمال بمجموعة من الشروط، يظل وجوده متوقفا عليها، معتبرة الموضوع غير ذي قيمة فنية وجمالية في غياب الذات المدركة، مثلما أنه لا وجود للذات من غير موضوع يظهرها لذاتها[5]. وهذه الشروط بعضها موضوعي قائم في ذات الموضوع، ويدركه المتلقي اعتمادا على آليات الإدراك الحسية أو العقلية، وبعضها ذاتي يرتبط بالتأثير الذي يتركه الجمال في الإنسان[6].
إن الاختلاف الذي حصل حول مفهوم الجمال، في ما نعتقد يرجع إلى عاملين أسـاسيين : أحدهما يتعلق بالأسس النظرية والتوجهات الفكرية المختلفة التـي يستند إليها البـاحثون في الجمال ودارسوه، والثاني مرتبط بالإدراك وما يتحكم فيه من آليات، فتاريخ علم الجمال يؤكد قيام صراع مرير بين النظريتين المـادية والمثـالية حول الجمال، حيث كان الماديون يعتبرون الظواهر الجمالية ذات أساس موضوعي كامن في الطبيعة وفي حيـاة الإنسان، في حين كان المثاليون ينظرون إلـى الظواهر الجمـالية على أنها ذات منشإ روحي[7].
وعن هذين الاتجاهين تفرعت عدة توجهات في دراسة الجمال، دون أن تراوح البحث في الجانب المادي أو المعنوي فيه. فقد نظر إليه أفلاطـون نظرة ميتـافيزيقية، وربطه بالمطلق حين اعتبره مثالا من المثل العليا كالحق والخير، وركزت المسيحية في العصور الوسطى على الجانب الروحي منه[8]، كما أن الإسلام أعطى للجدانب الروحي في الجمال أهمية بالغة، ودعا الإنسان في مواقف شتى إلى التأمل في مختلف الكائنات وما يخضع له تكونها وصنعها من إبداع، معتبرا ذلك دليلا على مبدع الخلائق وصانع الوجود، وعلى قدرته وعظمته.
أما الفيلسـوف هيجل فقد اعتبر الجمـال هو التجلي المحسوس للفكرة [9]، وقد أكد في ذلك على أهمية إضفاء الخصوصية الإنسانية على الأشياء المادية، لأن الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي، باعتباره انعكاسا للروح، والروح عنده أسمى من المادة.
ونظرت المـاركسية إلـى الجمـال كتمثيل للنشـاط الإبداعي العملي والغرضي للإنسـان، وفـي هـذا النشـاط يتمثل جوهر الإنسـان الاجتمـاعي وقواه الإبداعية الهـادفة إلـى تحويل الطبيعة والمجتمع[10]. واهتم الفيلسوف ديكارت بالزاوية الحسية والعقلية في الجمال، في حين انصرف بعض الفلاسفة الآخرين إلى البحث في الجوانب السيكولوجية، ليعتبروا الجمال وسطا بين الميول المنفعلة والفاعلة. ولم يستطع أي اتجاه من هذه الاتجاهات أن يحسم الأمر لصالحه.
وإذا كان الدارسون قد أولوا أهمية كبرى لإدراك الجمال، فقد أدركوا صعوبة تحقيق اتفاق حول القواعد الموضوعية التي يمكن أن يحدد على أساسها، وأصبحت مسألة إيجاد مقاييس نهائية ومطلقة شيئا غير ممكن، لكون المشاعر والأحاسيس الباطنية التي لها دور مهم في إدراك الجمال، ليست مشتركة ولا محط اتفاق بين البشر، ويزيد الأمر صعوبة انتماؤها للعوالم الداخلية المجهولة لدى الإنسان. كل ذلك لا يتيح إصدار أحكام موضوعية كلما تعلق الأمر بتقييم الإنتاجات الجمالية التي لا تنتظم وفق قواعد محددة وصارمة.
غير أن صعوبة الاتفاق حول إدراك الجمال تعود إلى مجموعة من العوامل تتحدد على أساسها خصوصية الإدراك. ومن هذه العوامل ما يلي :
ـ الموروث الثقافي والحضاري وما له من دور في توجيه الوعي الثقافي والفني للإنسان.
ـ مستوى خبرة الفرد وتجاربه، ودرجة احتكاكه بالأعمال الفنية، وما لذلك من أثر في صقل المعرفة والقدرات الإدراكية.
ـ طبيعة التربية التي يخضع لها الذوق والإحساس.
ـ الجانب الفيزيولوجي،لا سيما الحواس منه، باعتبارها نافذة الإنسان على العالم الخارجي، حيث الإدراك السليم لما هو حسي يقتضي سلامتها.
ـ الجانب السيكولوجي المتعلق بالمشاعر الباطنية للفرد التي تعكسها النزعات والميول.
ـ القدرات والملكات التي يكتسبها الإنسان وينميها عن طريق مختلف الأنشطة التي يمارسها في حياته[11].
ـ ذوق العصر والذكريات الفنية للمدرك.
ـ المستوى المعرفي والثقافي للفرد.
ـ المعتقدات والقيم التي تحيط بالإدراك.
ـ الاستعدادات والتاريخ الشخصي للفرد[12].
ويقف التصور المادي للجمال موقفا مخالفا لهذا، فيرى أن الوجود الموضوعي للجمال هو المؤثر في الإدراك، وليس العكس، لأن الصفة الجمالية في هذا التصور تملك وجودها الموضوعي، ولا تكتسبه من التقييم الجمالي للمدرك، بل إن سلامة التقييم الجمالي تقتضي وجودا موضوعيا للجمال[13].
إن الاختلاف حول الجمال وحول عوامل إدراكه كان لها الأثر البالغ على توجه النقاد، وعلى اعتمادهم في تحديده على الذوق، مع ما نتج عن ذلك من صعوبات في وضع قواعد نظرية وضوابط يتم الاحتكام إليها في فهمه وتفسيره، ذلك أن أحكام الذوق ذات طبيعة ذاتية في كثير من وجوهها، وتستند في غالبيتها إلى الانطباع الذي يحصل للمرء حول الموضوع، مما يجعل تعليلها أو تبريرها صعبا. فهي لا تستند إلى أسس علمية، ولا تبنى على براهين أو حجج منطقية، خاصة إذا كان صاحبها لا يملك تصورا نظريا يبني عليه أحكامه، ويهتدي به في مواقفه وتقييماته. ولعل الرغبة في تخطي هذه الإشكالية هي التي حفزت النقاد على التفكير في إيجـاد معـايير موضوعية تتناسب وخصوصية الجمال، ولا يشذ في ذلك عن باقي الإنتاجات الفكرية التي استطاع أصحابها أن يضبطوها بالتقعيد العلمي البعيد عن التفسيرات الميتافيزيقية، أو تلك التي تحكمها الأهواء والنزعات.
مقومات الجمال
تحديد مقومات الجمال لا ينفصل عن فهم الجمال وإدراكه، لذلك اختلفت وجهات النظر في تحديد هذه المقومات : فمن مركز على المقومات الذاتية المرتبطة بالوجود الموضوعي للجمال، وهذه كانت وجهة نظر الدين اهتموا بوجوده المادي والمحسوس، حيث رأى بعضهم أن الجمال هو ذلك الشيء " الذي يتسم بالتناسق والانسجام والتوافق والنظـام، بحيث ينم عـن معنـى ويكون له مغزى "[14]، وذهب مجاهد عبد المنعم مجاهد إلى أن الجمال يتأسس على مجموعة من المقومات، منها التماثل والتناغم والتوازن، وتعادل مختلف القوى والتدرج والتكرار والتنـاسق[15]. وتلك أمور نجد لها تجليا واضحا في مختلف الإبداعات الإنسانية، ويحققها المبدعون عن قصد ووعي.
أما المعطيات الطبيعية فلا أهمية لها في الفن، لأنها خارجة عن الفعل الإنساني، ومتجهة صوب هدف مختلف عن ما يهدف إليه الجمال الفني، فهي تهدف إلى الحفاظ على النوع وعلى النفس، في حين يكمن الهدف المركزي للجمال الفني في ذاته[16]. وقد أشـار عبد الله الطيب في كتابه "المرشد إلى فهم أشار العرب وصناعتها" إلى حقائق الجمال الحسية التي تدرك بواسطة الحواس، فتحدث في النفس سرورا، معتبرا إياها تدور حول أمرين هما الكل والتفصيل، حيث الكل يتجلى في الشكل والهيئة العامة، أما التفصيل فيتجلى في الألوان ومظاهر الضوء والظلام. والأمران معا يدوران حول الانسجام الذي يحققـان به الوحدة والتوازن. وفـي اجتمـاع كل ذلك يتحقق الجمـال[17]. وكان تأكيده على ذلك من خلال دراسة نماذج شعرية تحقق قيم الجمال المطردة في الثقافة العربية.
ومن مركز في الجمال على مقومات معنوية مرتبطة بالتأثيرات التي تلحق متلقيه، أو منحصرة في وجوده الموضوعي وأبعاده ودلالاته. ومن ذلك الجدة والطرافة والأصالة والاعتدال، والوضوح والصفاء والغرابة والشذوذ، أو بصفة عامة المعاني التي تنتج عن الجمال حينما يكـون "صورة من اتفـاق العقل والحس وبين ما يتخيل وما يرى "[18]. وهناك من ركز في الجمال على ما يترتب عليه من متعة ولذة وإشباع، بحيث تستحسنه النفس وترضى عنه. وتلك أمور لا يمكن حدوثها إلا إذا تجاوب الشعور الإنساني مع الموضوع الجمالي في بعض جوانبه أو كلها.
على أن هناك من نظر إلى الجمال في بعده الاجتماعي، فاعتبر الجميل هو كل ما يستجيب للممارسة الاجتماعية للإنسان، ويستند إلى الصفات الطبيعية للشيء، بحيث طبيعة الوجود الاجتماعي للفرد هي المتحكم الأساسي في إدراكه الجمالي. ولعل هذا الرأي يسير في ركب التصور المادي المـاركسي الذي يعتبر الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي. وقد قال به كثير من النقاد المؤمنين بالماركسية كمذهب فلسفي، من خلال نظرتهم للحكم الجمالي على أنه نتاج سوسيوثقافي يصدر عن الإنسان كنتيجة حتمية لعلاقته بمحيطه الاجتماعي، إذ الذي لا يحمل ثقافة عالية، لا يتوقع منه أن يصدر أحكاما جمالية سامية ونبيلة.
وأما الانشغال بالشكل الفني كمجال لتجلي الجمال في الأدب، فلا ترى فيه الماركسية سوى نوع من العجز عن تحمل تعقيدات الحياة، وسعي إلى طمس حقيقة الواقع، عبر الدعوة إلى استقلالية العمل الأدبي. وموقف مثل هذا لا يمكن أن يتسم بالبراءة، لأن مهمة التعبير الجمالي تقتضي الإشارة إلى الواقع بإظهار ما يحمله من تناقضات.
إن موقف الماركسية من الجمال يرتبط بتصورها الفلسفي العام للفن، والذي تعتبره فيه جزء من البنية الفوقية، ومن ثم فهو يملك صلة بالقاعدة الاقتصادية، ويقترن لذلك بتطورها.
إن مـا يحمله الجمـال مـن مقومـات متعددة يجعل تحديده أمرا نسبـيا، سيما وأنه ذو صلة واضحة بالقيم التي يضمرها، وبالمعـاني التي يراد له أن يتضمنها. فهي معـان تتسم بالتعدد، يخضع إدراكها لمعطيـات الثقـافة الاجتمـاعية والقيمية للفرد، فضلا عن كون النظر إليه يخضع للأدوار المختلفة التي يتوقع منه تأديتها، وهي أدوار لا يمكن حصرها في اللذة والمتعة، كما دأبت العديد من الاتجاهات المثـالية أن تجعله حبيسا لهمـا، ذلك أنه يقـوم - إلـى جـانب وظيفتي اللذة والمتعة - وبشكل غير مباشر، بوظيفة تربوية، من خلال ما يقدمه من نموذج يريد بها تهذيب النفوس وتربية الطباع، كما يقوم بوظيفة تنفيسية وتطهيرية، حين يخفف من أعباء المتلقي وينسيه مشاعره المكلومة، أو يساهم في حل تناقضاته الشعورية، ويقوم بوظيفة معرفية من خلال ما يقدمه من صور عن الواقع تستوجب من المتلقين التحليل والفهم والتفسير، لتنمي وعيهم ومداركهم.
وإن استحضـار هذه الوظـائف، منفردة أو مجتمعة، ليجعل الجمـال متعدد المقومـات وغنيها، بحيث الاجتهـاد في حصر الجـانب الشكلي منهـا، لن يكون كـافيا في ضبط الجـانب المعنوي الذي يتنوع بتنوع دلالات الجمـال وأهدافه، وهـذا مـا جعل المقومـات الجمـالية تتسم بطـابع التغير والذاتية المرتبطة بمن يحـاول تحديدهـا. على أن الجمال في استعمـالات الدارسين كثيرا ما التبس بالفن ليبلغ حد الخلط أحيـانا لدى المتلقين، وقد حـاول جيروم ستـولنيتزJerome Stolnitz إبراز الفرق بينهمـا في كتـابه " النقد الفني دراسة جمـالية وفلسفية "، إذ اعتبر الفن يشير إلـى إنتـاج موضوعـات، أو خلقهـا عن طريق نوع مـن الجهد البشري [19]، ولذلك يسمى المنتوج عملا فنيا. أما الجمال فإنه " يشير إلى جاذبية الأشياء وقيمتها "[20].
الجمال إذن سمة وميزة يتميز بها المنتوج البشري، ماديا كان أو معنويا، وهذه السمة هي ما يجلب المتذوق ويؤثر فيه، فيملك عليه أحاسيسه بما يحقق لديه من لذة، أما الفن فهو المنتوج المتحقق نتيجة عمل معين، بحيث قد يكون جميلا وقد لا يكون، كما أن الجمال قد يتحقق في الفن وفي غير الفن. ولعل الطبيعة تقدم لنا خير دليل على ذلك، بما تشتمل عليه من مناظر خلابة لا دخل للفن فيها. غير أن الفن في المجال الأدبي لا يذكر إلا ويقترن بالجمال، اعتبارا لكون الغاية التي يسعى إلى تحقيقها هي جوهر الوجود الجمالي، وهو ما فرض على دارسي الأدب ونقاده أن يقرنوا العمل الفني بالجمال، بل إن جوهر أية دراسة نقدية للفن الأدبي مهما كان جنسه أو نوعه، هو البحث في مقوماته الجمالية، لإبراز وظائفها في التواصل الذي يشكل غاية كل مبدع، ومستوى توفق المبدع في حسن استعمالها والإجادة فيها.
خصائص الجمال
يتبين من خلال التعاريف التي حاولت مقاربة الجمال الفني، أو من خلال المواقف والتصورات التي اتخذته موضوعا لها، أنه يتميز بمجموعة من الخصائص والسمات نذكر منها ما يلي :
ـ أنه ذو طبيعة إنسانية، لأن الكائن الحيواني لا يستطيع أن ينتج جمالا.
ـ أنه عمل قصدي وصادر عن الوعي، لأن الإنسان أنتجه بهدف تبليغ رسالة، ولم يكن مجرد ترف فكري، أو سلوك غير إرادي.
ـ أنه يرفض القواعد السابقة على إنتاجه، لأنه سعي في غير نموذج، سوى النموذج الذي لا تكون صورته واضحة تمام الوضوح لدى المبدع لحظة الإبداع، لكنه ينتظم ويبنى وفقا للمتعة التي ينشدها المبدع، وتوجهه في عمله.
ـ يعتبر تعبيرا عن شعور داخلي يتميز بالتدفق والانسياب.
ـ يتضمن أهدافا غير جمالية وغير مفصح عنها، إلى جانب الهدف المركزي الذي يتمثل في تحقيق اللذة والمتعة.
ـ الكثير من معطياته وعناصره غير قابلة للتبرير الموضوعي، نظرا لطغيان الذاتية فيها، وإغراقها في الجوانب المعنوية والباطنية للإنسان.
ـ يقوم على منطق خاص به، مما يجعل منطق الواقع لا يسعف في تفسيره أو الحكم عليه.
ـ يقتضي تقييمه النظر إليه في شموليته، إذ لا قيمة للعنصر الواحد في ذاته، ولأن مختلف عناصره تتجه لخدمة النسق الكلي.
ـ يقوم على الذاتية والفردية أساسا في إنتاجه.
ـ لا تستطيع المعرفة لوحدها أن تنهض به، بل لا بد من الاستعداد الفطري أيضا، والملكات والقدرات الباطنية. فتعلم قواعد الجمال لا يمكن أن تعطي فنانا على الرغم من أهميتها.
ـ المقاييس الأساسية لتحديده تتسم بالطبيعة الداخلية، إذ ينتجها الناقد ساعة العملية النقدية.
الجمال و النص الأدبي
الجمال قيمة من القيم التي يتصف بها الشيء الجميل، وتشكل سمة له حين تتوفر فيه خصائص معينة، أما إدراكه فنوعان :
أحدهما شعوري، وينتج عنه إحساس باللذة والارتياح، أو الرضا والمتعة، ويتعلق الأمر فيه بالجمال المحض، الذي نزهه الفيلسوف إيمانويل كانت عن كل غرض أو منفعة، وتلعب الحواس دورا هاما في إدراكه، لأن اللذة الإنسانية التي تشكل غاية له، تكتسي طابعا مباشرا، ولا تقوم على أي أساس عقلي، بل يشكل الذوق أساسها الوحيد. ونظرا لكون الذوق ذا طبيعة ذاتية، فإن ما يمكن أن يصدر عنه من أحكام حول المواضيع الجمالية، يظل مدار خلاف بين مدركي الجمال وتطبعه النسبية، والسبب في ذلك يعود إلى عوامل مختلفة، عبر عنها "كانت" نفسه حين قال : " لا توجد قاعدة موضوعية يحدد بها الذوق ما هو جميل استنادا إلى تصور، لأن كل حكم صادر عن هذا المصدر هو حكم جمالي، أي مبدأه المحدد هو شعور الذات لا تصور الموضوع. ومن العبث البحث عن مبدإ للذوق يوضح بواسطة تصورات معينة المعيار الكلي للجميل، لأن ما نبحث عنه نحن حينئذ أمرا مستحيلا ومناقضا في ذاته "[21].
الثاني عقلي، ويتعلق بالجمال غير الخالص، وهو الذي عبر عنه "كانت" بالجمال التابع، ويتميز بكونه يفترض تصورا سابقا على الموضوع الذي يراد الحكم عليه، ويستند إلى قواعد موضوعية تشكلت عبر تاريخ الجمال، نتيجة لتراكم خبرات وتجارب معينة في حياة الإنسان، حيث يفضي تحققها في الموضوع إلى إكسابه صفة الجميل، وتنتفي عنه هذه الصفة إذا لم يخضع لتلك القواعد.
وإذا كان النقاد وعلماء الجمال يختلفون حول الجمال، سواء على مستوى طبيعته أو مصدره، أو كيفية تحققه، فإن ذلك يعود إلى اختلاف الأسس الفلسفية المعتمدة لديهم، ولم يكن الجمال في الأدب ليسلم من هذا الاختلاف، نتيجة لكون النقد الأدبي لم يكن يميز جيد الأعمال الأدبية من رديئها، اعتمادا على اللذة التي تحدثها لدى متلقيها، حين يستحسنونها ويرضون عن فنيتها فقط، بل كان يعتمد قواعد مطردة في المجال الأدبي، بعضها يرتبط بالشكل الفني، وبعضها ذو صلة بالمعنى، لذلك نرى أنه من الضروري في الحديث عن الجمال في الأدب أن يؤخذ الجانب المعنوي بعين الاعتبار، لما له من دور في التصور الجمالي للأديب.
وإذا كان الشكل هو المظهر المادي للنص الأدبي الذي يعكس الجانب الجمالي، فإنه لا يكتسي قيمته الجمالية إلا في علاقته العضوية مع المضمون. وقد عير بعضهم عن ذلك بقوله : " قيمة أي نوع من أنواع الفن إنما تتحدد وفقا لملاءمة الشكل المحسوس للفكرة التي يجري التعبير عنها "[22]. على أن إجرائية البحث في الجمال تستوجب أن ننظر في الجانب الشكلي للعمل الأدبي، باعتباره المستوى الذي يعكس الوجود المادي للجمال، وإن كان هذا الجمال لا قيمة له بعيدا عن مضمون يوجهه. فأي معنى إذن يحمل الجمال في النص الأدبي وما هي عناصره؟
يشار بالجمال في الأدب إلى السمات والخصائص التي يحملها النص الأدبي ويتميز بها تعبيره عن غيره من التعابير، بحيث يكون قادرا على إثارة انفعالات المتلقين وعواطفهم، فيحقق لديهم متعة ولذة، وهذه السمات تتحدد في صياغته. لذلك يستدعي كل بحث في الجمال في النص الأدبي أن ينظر الناقد والمتذوق في ما حققه شكله من إضافة إلى النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، وهذا بدوره يستدعي أن يكون المبدع عالما بقواعد النوع الأدبي المطردة، ويتخذها إطارا نظريا يوجه عملية الإبداع، دون أن يضيق عليها، لأن الإبداع الجميل يسعى دائما إلى التجاوز ورفض النمطية.
والإطار الجمالي الذي ينتج في سياق التطور الثقافي والفني، لا يمكنه أن يستقر على وضع معين، مما يجعل المقاييس الجمالية نفسها غير مطلقة، سواء في جانبها الذاتي، أو الموضوعي، حيث قراءة قصيدة تمجد البطولة أو رواية بوليسية لا يمكن أن يترتب عنها نفس الشعور ونفس الاستجابة لدى المتلقين، بل تتدخل في ذلك اعتبارات ذات صلة بتجربة القراء مع هذين الجنسين الفنيين، أو ذات صلة بوضعهم الشعوري، كما أن معايير الجمال في الإبداع الشعري في العصر الحديث ليست هي نفس المعايير عند النقاد القدامى.
الجمال في الأدب يهم الإطار العام للنص الأدبي، وما يندرج تحته من مكونات مختلفة، مثل الألفاظ والتراكيب، والصور والرموز والإيحاءات، وكذا الأصوات والإيقاعات والموسيقى، ولا يكون العمل الأدبي جميلا إلا إذا توفق الأديب في اختيار هذه العناصر، وأحسن استعمالها، بحيث يكون أكثر إبلاغا وقدرة على تمثل القيم البيانية، وأصول البلاغة كما تطرد في الأدب العربي. وهذه قيم جمالية عامة قد تتوفر في جنس أدبي أكثر من غيره. على أن الجمال في الأدب أيضا يهم القيم الفنية التي ترتبط بجنس أدبي معين. فجمالية الرواية مثلا لا تتحقق في اللغة أساسا وإن كانت اللغة لها أهميتها فيها، ولكن تتحقق في العناصر الفنية التي تعتبر مقومات أساسية في الرواية، كالسرد والوصف والأحداث والزمان والمكان وغير ذلك، وجمالية الشعر تتحقق انطلاقا من مقومات نوعية لا بد من توفرها في الشعر، كالموسيقى والوزن والصور والمجازات...ومعنى ذلك أن الجمال في الأدب يتحدد على أساس قواعد النوع والجنس، وإن كانت هناك قواعد مشتركة يحددها علم الجمال للفنون عامة، وتشكل الإطار الذي تتحقق بفضله متعة المتلقي.
نخلص من هذا إلى أن الجمال في النص الأدبي هو الخاصية الجوهرية التي يتميز بها كخطاب عن غيره من الخطابات، مما يجعله مظهرا لأدبية الأدب، لذلك لا فصل بين الأدب كأدب وبين العنصر الجمالي فيه، بل لا يسمى الأدب أدبا إلا إذا كان جميلا، وهو ما يعني أن البحث في عناصر الأدبية في أي نص أدبي هو بحث في الجمال فيه، لأنه يتعلق بالجوانب التي تبرز إضافة المبدع وتحدد تميزه، أما مختلف الآثار المترتبة عنه وردود الفعل عليه، فإنها ليست من الجمال في شيء، ولا تحكمها قواعده، لأنها تخضع لاعتبارات اجتماعية ونفسية بالأساس، وهي بحكم ذلك خارج الجمال المتحدث عنه في النص الأدبي، وإن كانت ذات صلة به.
________________________________________
[1]عبد الله الطيب المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها ج2 دار الفكر العربي بيروت1970 ص485.
[2]جان كوهن بنية اللغة الشعرية.ت.محمد الولي ومحمد العمري.المعرفة الأدبية دار توبقال للنشر ط1/1986 ص 19.
[3]زكريا إبراهيم في إحالة على كاسيرر فلسفة الفن في الفكر المعاصر دار مصر للطباعة القاهرة 1966 ص243.
[4]هيجل(فريدريك) المدخل إلى علم الجمال.ت.جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت ط2/1980 ص35.
[5]محمد زكي العشماوي قضايا النقد الأدبي دار النهضة العربية 1979ص24.
[6]فؤاد مرعي المفاهيم الجمالية مجلة المعرفة السورية عدد247 سبتمبر1982 من ص17إلى ص23.
[7]روزنتال ـ يودين الموسوعة الفلسفية ص280.
[8]روز غريب النقد الجمالي وأثره في النقد العربي دار الفكر اللبناني ط2/1983 ص42.
[9]علي عبد المعطي محمد جماليات الفن المناهج والمذاهب والنظريات دار المعرفة الجامعية الإسكندرية 1994 ص22.
[10]روزنتال ـ يودين الموسوعة الفلسفية ص280.
[11]روز غريب النقد الجمالي وأثره في النقد العربي ص43.
[12]جيروم سولينتز النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية ت.فؤاد زكريا المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2/1981 ص71.
[13]عبد المنعم تليمة مداخل إلى علم الجمال منشورات عين المقالات الدار البيضاء ط2/1987 ص23.
[14]علي عبد المعطي محمد جماليات الفن ص22.
[15]مجاهد عبد المنعم مجاهد تاريخ علم الجمال دار بن زيدون للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ط1/1988 ص39.
[16]جان برتليمي مبحث في علم الجمال.ت.أنور عبد العزيز دار نهضة مصر للطبع والنشر القاهرة ص424.
[17]عبد الله الطيب المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ج2 دار الفكر بيروت ط2 /1970 ص ص488-489-490.
[18]روز غريب النقد الجمالي وأثره في النقد العربي ص32.
[19]جيروم سولنيتز النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية.ت.فؤاد زكريا المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2/1981 ص29.
[20]جيروم سولنيتز النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية ص23.
[21]عبد الرحمان بدوي إمانويل كانت فلسفة القانون والسياسة وكالة المطبوعات الكويتية1979 ص342.
[22]رمضان الصباغ الفن والقيم الجمالية بين المثالية والمادية دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر إسكندرية2000 ص144
مواضيع مماثلة
» مفهوم المواطنة في الفكر العقائدي الفلسفي
» مقال فلسفي للمقارنة بين السؤال العلمي و الفلسفي
» مفهوم الغير
» مفهوم الحقل
» مفهوم النظرية الإجتماعية
» مقال فلسفي للمقارنة بين السؤال العلمي و الفلسفي
» مفهوم الغير
» مفهوم الحقل
» مفهوم النظرية الإجتماعية
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى