علوم النفس والاجتماع والتربية
صفحة 1 من اصل 1
علوم النفس والاجتماع والتربية
علوم النفس والاجتماع والتربية
يوجد عند الناس خلط بين الأفكار الاستنتاجية الناتجة عن الطريقة العقلية والأفكار العلمية الناتجة عن الطريقة العلمية، وبناء على هذا الخلط يعتبرون ما يسمى علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية علماً، ويعتبرون أفكارها أفكاراً علمية، لأنها جاءت بناء على ملاحظات جرى تتبعها على الأطفال في ظروف مختلفة وأعمار مختلفة؛ أو جرى تتبعها على جماعات مختلفة في ظروف مختلفة؛ أو على أعمال مختلفة لأشخاص مختلفين في ظروف مختلفة، فسمّوا تكرار هذه الملاحظات تجارب.
والحقيقة أن أفكار علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية ليست أفكاراً علمية، وإنّما هي أفكار عقلية، لأن التجارب العلمية هي إخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة أثر هذا الإخضاع، أي هي إجراء التجارب على نفس المادة كتجارب الطبيعة والكيمياء. أمّا ملاحظة الشيء في أوقات وأحوال مختلفة فليس بتجارب علمية. وعليه فملاحظة الطفل في أحوال مختلفة وأعمار مختلفة، وملاحظة الجماعات في بلدان مختلفة وظروف مختلفة، وملاحظة الأعمال من أشخاص مختلفين وفي أحوال مختلفة، كل ذلك لا يدخل في بحث التجارب العلمية، فلا يعتبر طريقة علمية، وإنّما هو ملاحظة وتكرار للملاحظة واستنتاج فحسب. فهو طريقة عقلية وليست علمية. وعليه فإن أفكار ما يسمى علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية أفكار عقلية وتدخل في الثقافة ولا تدخل في العلم.
على أن علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية هي أمور ظنية قابلة للخطأ وليست من الأمور القطعية، فلا يصح أن تُتخذ أساساً للحكم على الأشياء ولا يجوز أن يُستدل بها على صحة الأشياء أو عدم صحتها، لأنها ليست من قبيل الحقائق العلمية أو القوانين العلمية حتى يقال هي صواب حتى يثبت خطؤها، بل هي معارف ظنية جاءت عن طريق الظن. وهي وإن كان قد تُوصّل إليها بالطريقة العقلية ولكنها ليست من قبيل الحكم بوجود الأشياء بل هي من قبيل الحكم على حقيقة الشيء ما هو، وهذا الحكم ظني قطعاً فيه قابلية الخطأ. على أن هذه المعارف الثلاث: علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية مبنية على أسس مغلوطة، وهذا ما جعل كثيرا من الأفكار التي احتوتها أفكاراً مغلوطة.
وذلك لأن علم النفس مبني في جملته على نظرته للغرائز ونظرته للدماغ. فهو ينظر إلى أن في الإنسان غرائز كثيرة منها ما اكتُشف ومنها ما لم يُكتشف، وبنى علماء النفس على هذه النظرة للغرائز نظريات خاطئة، فكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى الخطأ في كثير من الأفكار الموجودة في علم النفس. أمّا النظرة إلى الدماغ، فإن علم النفس يعتبر الدماغ مقسماً إلى مناطق وأن كل منطقة لها قابلية خاصة، وأن في بعض الأدمغة قابليات ليست موجودة في أدمغة أخرى. وبناء على هذا فإن بعض الناس فيهم قابلية لفهم اللغات وليس فيهم قابلية لفهم الرياضيات، وهناك أشخاص على العكس فيهم قابلية لفهم الرياضيات وليس فيهم قابلية فهم اللغات. وهكذا بُنيت على هذه النظرة الخاطئة نظريات خاطئة. فكان هذا أيضاً من الأسباب التي أدت إلى الخطأ في كثير من الأفكار الموجودة في علم النفس.
والحقيقة في هذا كله هي: أن المشاهَد بالحس مِن تتبُّع الرجْع أو رد الفعل أن الإنسان فيه طاقة حيوية لها مظهران: أحدهما يتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم يُشبَع يموت الإنسان والثاني يتطلب الإشباع وإذا لم يُشبَع يبقى الإنسان حياً ولكنه يتألم وينزعج من عدم الإشباع. والمظهر الأول يتمثل في الحاجات العضوية كالجوع والعطش وقضاء الحاجة، والمظهر الثاني يتمثل في الغرائز وهي غريزة التدين وغريزة النوع وغريزة البقاء. وهذه الغرائز هي الشعور بالعجز والشعور ببقاء النوع والشعور ببقاء الذات ولا يوجد غير ذلك. وما عدا هذه الغرائز الثلاث هي مظاهر للغرائز كالخوف والسيادة والملكية مظاهر لغريزة البقاء، وإكبار الأبطال والعبادة مظاهر لغريزة التدين، والميل الجنسي والأبوة والأمومة والأخوة مظاهر لغريزة النوع. وهكذا كل مظهر من المظاهر يرجع إلى غريزة من هذه الغرائز.
هذا من ناحية الغرائز، أمّا من ناحية الدماغ، فالحقيقة هي أن الدماغ واحد وأنّ تفاوت الأفكار واختلافها نابع لتفاوت المحسوسات والمعلومات السابقة واختلافها، وتابع لتفاوت قوة الربط. وأنه لا توجد في دماغ قابلية لا توجد في الآخر بل جميع الأدمغة فيها قابلية الفكر في كل شيء متى توفر الواقع المحسوس والحواس والمعلومات السابقة والدماغ. وإنّما تتفاوت الأدمغة في قوة الربط وفي قوة الإحساس كما تتفاوت العيون في قوة الإبصار وضعفه، وكما تتفاوت الآذان في قوة السمع وضعفه. ولذلك يمكن إعطاء كل فرد أي معلومات وفيه قابلية لهضمها، ولا أساس لما جاء في علم النفس من القابليات للأدمغة أو للدماغ الواحد.
وعلى هذا فاعتبار علم النفس للغرائز اعتباراً خاطئاً، واعتباره للدماغ اعتباراً خاطئاً أدى إلى خطأ النظريات التي بُنيت على أساسها.
أمّا علم الاجتماع فمبني في جملته على نظرته للفرد والمجتمع، فهي مبنية على النظرة الفردية. ولهذا تنتقل نظرتها من الفرد إلى الأسرة، وإلى الجماعة، وإلى المجتمع، على اعتبار أن المجتمع مكون من أفراد. ولهذا تعتبر المجتمعات منفصلة وأن ما يصلح لمجتمع لا يصلح لمجتمع آخر. وبنى علماء الاجتماع على هذه النظرة نظريات خاطئة، وكان ذلك السبب الرئيسي الذي أدى إلى الخطأ في أفكار علم الاجتماع.
والحقيقة هي أن المجتمع ليس مكوناً من أفراد مطلقاً، فالفرد مع الفرد مع الفرد يكوّنون جماعة وليس مجتمعاً، والجماعة لا تشكل مجتمعاً إلاّ إذا نشأت بين أفرادها علاقات دائمية، فإذا لم تنشأ علاقات ظلوا جماعة. ومن هنا كان وجود عشرة آلاف شخص مسافرين في باخرة لا يجعل منهم مجتمعاً بل يظلون جماعة، ولكن وجود مائتي شخص في قرية يشكلون مجتمعاً لِما بينهم من علاقات دائمية. فوجود العلاقة الدائمية بين الجماعة هو الذي يجعل منهم مجتمعاً. فالبحث في المجتمع يجب أن يكون بحثاً في العلاقات لا بحثاً في الجماعة. إلاّ أن الذي يوجِد هذه العلاقة بين الأفراد إنّما هو المصلحة التي لهم، فإذا كانت هنالك مصلحة لهم نشأت بينهم علاقة، وإذا لم تكن هناك مصلحة لا تنشأ علاقات. والمصلحة لا تُنشئ علاقة إلاّ إذا اجتمعت فيها ثلاثة أمور: أحدها أن يتوحد فكر الطرفين على اعتبار أن هذه مصلحة، فإذا رآها أحدهما مصلحة والآخر رآها مفسدة لا تنشأ بينهما علاقة، فلأجل أن تنشأ العلاقة يجب أن يراها كل منهما أنها مصلحة. والثاني أن تتوحد المشاعر على المصلحة، فإذا فرح لها الطرفان أو غضبوا منها تكوّنت علاقة، أمّا إذا فرح بها أحدهما وغضب منها الآخر لا تنشأ منها علاقة. والثالث أن يتوحد النظام الذي ينظم هذه المصلحة، فإذا نظم أحد الطرفين المصلحة على نظام ورفض الآخر هذا النظام ونظمها على نظام آخر لا تنشأ بينهما علاقة، فلا بد أن يتفق الطرفان على كيفية تنظيم المصلحة لهما.
فبتوحيد الأفكار والمشاعر والأنظمة في الأفراد ينشأ المجتمع. إلاّ أن هؤلاء الأفراد يُنشئون مجتمعاً معيناً خاصاً بهم، فإذا أرادوا ضم غيرهم لهم من مجتمعات أخرى، كان عليهم أن ينقضوا الأفكار والمشاعر والنظام عند الطرفين بأفكار ومشاعر وأنظمة أخرى للجميع حتى يكوّنوا مجتمعاً، ولذلك لا يكون تعريف المجتمع بالأفراد منطبقاً على المجتمع المبدئي وإنّما ينطبق على مجتمع خاص.
أمّا المجتمع بمعناه الصحيح فهو مكون من الإنسان والأفكار والمشاعر والأنظمة، وأن ما يصلح من أفكار ومعالَجات للإنسان في مكان ما يصلح للإنسان في كل مكان ويحوّل المجتمعات المتعددة إلى مجتمع واحد تصلحه الأفكار والمشاعر والأنظمة.
والفرق بين الإنسان والفرد، أنك حين تبحث محمداً وخالداً وحسناً بما لكل منهم من صفات لا يشاركه فيها غيره من بني الإنسان طبيعياً فتكون قد بحثتَ فيه باعتباره فرداً، وإذا بحثتَ محمداً وخالداً وحسناً بما عنده من أمور فطرية طبيعية موجودة عند بني الإنسان طبيعياً فتكون قد بحثتَ فيه باعتباره إنساناً وإن كنت تبحث أشخاصاً معينين. ومن هنا كان إصلاح المجتمع إصلاحاً جذرياً إنّما يكون ببحث المجتمع باعتباره إنساناً وأفكاراً ومشاعر وأنظمة لا باعتباره فرداً. فالنظرة إذن نظرة إنسانية لا نظرة فردية حتى لو بُحثت في فرد معين.
هذا هو تعريف المجتمع، وهذه هي النظرة الصحيحة له. وهذا هو واقع المجتمع وواقع الجماعة وواقع الفرد. وبهذا يتبين أن خطأ النظرة إلى المجتمع ترتب عليها خطأ النظريات، وترتب عليها خطأ علم الاجتماع في جملته.
أمّا ما جاء في علم الاجتماع عن الجماعة من حيث الضعف العام في إدراك الأمور لها عن الفرد الواحد، ومن ناحية قربها لإثارة المشاعر أكثر من الفرد، فالصحة فيه ليست آتية من ناحية النظرة إلى المجتمع وإنّما هي آتية من حيث غلبة المعلومات الكثيرة المترددة على المعلومات الفردية فتتحكم بالحكم على الواقع، وآتية من حيث أن مظهر القطيع الذي يظهر في الجماعة يثير المشاعر لأنه من مظاهر غريزة البقاء.
وعلى ذلك فإن كل ما بُني على النظرة إلى المجتمع فهو فاسد، وما صح منه تكون صحته آتية من كونه ناتجاً عن سبب آخر لا عن النظرة إلى المجتمع. وعلى هذا فإن علم الاجتماع فاسد لأنه مبني على نظرة فاسدة وهي النظرة إلى المجتمع والفرد.
أمّا علوم التربية فهي مبنية على علم النفس ومتأثرة بنظريات علم الاجتماع، وناتجة عن ملاحظة أعمال الأفراد وأحوال الأطفال. وهذا يجعل علوم التربية مختلط فيها الصحيح بالفاسد، فما بُني على علم النفس وتأثر بعلم الاجتماع فهو فاسد. وفساده هذا أدى إلى الوقوع في أفكار تربوية فاسدة أدت إلى فساد مناهج التعليم وطرقه. فاعتبار الطفل غير قابل لبعض العلوم وقابلاً للبعض الآخر اعتبار فاسد، ولذلك كان تقسيم التعليم إلى علمي وأدبي وترك الشخص يختار حسب استعداده/ من أفسد الأمور. فهو مخالف للواقع ومُضِر في صالح الأمّة. واعتبار الشخص غير قابل لتعلم بعض العلوم وقابلاً لغيرها اعتبار فاسد أيضاً، وقد أدى إلى حرمان الكثيرين من تعلم بعض العلوم وحرمان الكثيرين من مواصلة التعليم.
أمّا ما بُني من علوم التربية على ملاحظة الأطفال وملاحظة أعمال الأفراد في ظروف وأحوال مختلفة، فإنّ ما كان منها موافقاً للواقع صحيح الاستنتاج كالتعب والراحة والنشاط الذهني وما شاكل ذلك، فإنه صحيح في جملته. وما كان منها غير موافق للواقع مثل تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول وإعطاء أربعة أشهر عطلة للتلميذ، ومثل الامتحانات وما شاكلها فإنه خطأ في جملته. ومن هنا جاء خطأ النظريات التربوية وفساد علوم التربية في جملتها، وخاصة فيما بُني على علم النفس وتأثر بعلم الاجتماع.
الطريقة العلمية والطريقة العقلية
الطريقة العلمية هي منهج معين في البحث يُسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يُبحث عنه عن طريق إجراء تجارب على الشيء، ولا تكون إلاّ في بحث المواد المحسوسة، ولا يتأتى وجودها في بحث الأفكار. وهي تكون بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية التي أُخضعت لها ثم تُستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال في المختبرات.
وتفرض هذه الطريقة التخلي عن جميع المعلومات السابقة عن الشيء الذي يُبحث وعدم وجودها، ثم تبدأ بملاحظة المادة وتجربتها، لأنها تقتضيك إذا أردت بحثاً أن تمحو من نفسك كل رأي وكل إيمان سابق لك في هذا البحث وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية، فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبِت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.
فالنتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العلمية هي مع تسميتها حقيقة علمية أو قانوناً علمياً فإنها ليست قطعية وإنّما هي ظنية فيها قابلية الخطأ. وقابلية الخطأ هذه في الطريقة العلمية أساس من الأساس التي يجب أن تلاحَظ فيها حسب ما هو مقرر في البحث العلمي. وقد حصل الخطأ في نتائجها بالفعل وظهر ذلك في كثير من المعارف العلمية التي تبيَّن فسادها بعد أن كان يُطلَق عليها حقائق علمية. فمثلاً الذرّة كان يقال عنها إنها أصغر جزء في المادة ولا تنقسم، فظهر خطأ ذلك وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها تنقسم.
وعلى هذا تكون الطريقة العلمية خاصة بالمادة لأن من أسسها الرئيسية التجربة على المادة بإخضاعها لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وهذا لا يتأتى في الفكر إذ لا يمكن أن تجري عليه تجربة. وعلى هذا أيضاً تكون النتائج التي يُتوصل إليها في الطريقة العلمية نتائج ظنية وليست قطعية، وفيها قابلية الخطأ.
أمّا الطريقة العقلية فهي منهج معين في البحث يُسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يُبحث عنه عن طريق نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها الواقع، فيُصدر الدماغ حكمه عليه. وهذا الحكم هو الفكر أو الإدراك العقلي. وتكون في بحث المواد المحسوسة وفي بحث الأفكار، وهي الطريقة الطبيعية في الوصول إلى الإدراك من حيث هو، وعمليتها هي التي يتكون بها عقل الأشياء أي إدراكها، وهي نفسها تعريف للعقل، وعلى منهجها يصل الإنسان من حيث هو إنسان إلى إدراك أي شيء سبق أن أدركه أو يريد إدراكه.
إلاّ أن النتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العقلية يُنظر فيها: فإن كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الشيء فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقاً ولا بحال من الأحوال. وذلك لأن هذا الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطريقة قطعي.
أمّا المغالطات التي تحصل فيخطئ فيها الحس مثل رؤية السراب وظنه أنه ماء ورؤية القلم الصحيح المستقيم وهو في كوب من الماء أنه مكسور أو أعوج، فليس خطأ في وجود الواقع وإنّما هو خطأ في صفات الواقع، فهو لم يخطئ في وجود شيء وهو السراب أو القلم، وإنّما أخطا في صفة الشيء فقال عن السراب إنه ماء وعن القلم الصحيح المستقيم إنه مكسور أو أعوج.
وهكذا في جميع الأشياء مهما حصلت فيها من مغالطات، فإن الحس لا يمكن أن يخطئ في وجودها، فهو حين يحس بوجود شيء يكون هذا الشيء موجوداً قطعاً، والحكم على وجوده يكون قطعياً. أمّا إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الشيء أو صفته فإنها تكون نتيجة ظنية فيها قابلية الخطأ، لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ولكنها تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها وحينئذ فقط يُحكم عليها بالخطأ، وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صحيحاً.
أمّا البحث المنطقي فليس طريقة في التفكير وإنّما هو أسلوب من أساليب البحث المبنية على الطريقة العقلية، لأن البحث المنطقي هو بناء فكر على فكر بحيث يُنتهى إلى الحس والوصول عن طريق هذا البناء إلى نتيجة معينة مثل: لوح الكتابة خشب، وكل خشب يحترق، فتكون النتيجة أن لوح الكتابة يحترق. ومثل: لو كان في الشاة المذبوحة حياة لتحركت لكنها لم تتحرك، فتكون النتيجة أنه لا توجد في الشاة المذبوحة حياة، وهكذا. فقد قرنت في المثال الأول فكرة كل خشب يحترق مع فكرة لوح الكتابة خشب، فنتج عن هذا الاقتران أن لوح الكتابة يحترق. وقرن في المثال الثاني كون الشاة المذبوحة لم تتحرك مع فكرة أن الحياة في الشاة تجعلها تتحرك، فنتج عن هذا الاقتران أن الشاة المذبوحة لا توجد فيها حياة.
فهذا البحث المنطقي إذا كانت قضاياه التي تتضمن الأفكار التي جرى اقترانها صادقة، تكون النتيجة صادقة، وإذا كانت كاذبة تكون النتيجة كاذبة. وشرط المقدمات أن تنتهي كل قضية منها إلى الحس، ولذلك ترجع إلى الطريقة العقلية ويحكم فيها الحس حتى يُفهم صدقها. ومن هنا كانت أسلوباً من الأساليب المبنية على الطريقة العقلية وفيها قابلية الكذب وفيها قابلية المغالطة، وبدل أن يُختبر صدق المنطق بالرجوع إلى الطريقة العقلية فالأوْلى أن تُستعمل الطريقة العقلية في البحث ابتداءً وأن لا يُلجأ إلى الأسلوب المنطقي. وإن كان يمكن أن يُستعمل إذا صحت قضاياه بإرجاعها إلى الطريقة العقلية.
وعلى هذا فإن للتفكير طريقتين اثنتين فقط هما: الطريقة العلمية والطريقة العقلية. والأولى تفرض التخلي عن المعلومات السابقة، والثانية تحتم وجود المعلومات السابقة. والطريقة العقلية هي الأساس في التفكير وبها وحدها ينشأ الفكر، وبدونها لا ينشأ فكر ولا يتأتى أن توجد الطريقة العلمية ولا الأسلوب المنطقي ولا غير ذلك. فبواسطة الطريقة العقلية يوجد إدراك الحقائق العلمية بالملاحظة والتجربة والاستنتاج؛ وبواسطتها يوجد إدراك الحقائق المنطقية في المنطق وما شابهه؛ وبواسطتها يوجد إدراك حقائق التاريخ وتمييز الخطأ من الصواب فيها؛ وبواسطتها توجد عند الإنسان الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، وعن حقائق الكون والإنسان والحياة.
أمّا الطريقة العلمية فإنها لا يمكن أن توجَد ولا يتأتى أن تكون إلاّ إذا بُنيت على الطريقة العقلية وعلى ما ثبت بالطريقة العقلية. فمن الطبيعي، ومن المحتم، أن لا تكون هي أساساً للتفكير. على أن الطريقة العلمية تقضي بأن كل ما لا يُلمس مادياً لا وجود له في نظر الطريقة العلمية، وإذن لا وجود للمنطق ولا للتاريخ وغيرهما، لأن ذلك لم يثبت علمياً، أي لم يثبت عن طريق ملاحظة المادة وتجربتها والاستنتاج المادي للأشياء الملموسة، وهذا هو الخطأ الفاحش، لأن العلوم الطبيعية فرع من فروع المعرفة، وفكر من الأفكار، وباقي معارف الحياة كثيرة، وهي لم تثبت بالطريقة العلمية، بل تثبت بالطريقة العقلية، ولذلك لا يجوز أن تُتخذ الطريقة العلمية أساساً للتفكير. والذي يجب أن يُتخذ أساساً للتفكير هو الطريقة العقلية وحدها.
على أن هذا لا يعني أن الطريقة العلمية طريقة خاطئة، بل الخطأ هو جعلها أساساً للتفكير، لأن جعلها أساساً لا يتأتى إذ هي ليست أصلاً يُبنى عليها وإنّما هي فرع بُني على أصل، ولأن جعلها أساساً يُخرِج أكثر المعارف والحقائق عن البحث، ويؤدي إلى الحكم على عدم وجود كثير من المعارف التي تُدرس والتي تتضمن حقائق مع أنها موجودة بالفعل، وملموسة بالحس والواقع.
على أن الطريقة العلمية ظنية وقابلية الخطأ فيها أساس من الأسس التي يجب أن تلاحَظ فيها، فلا يجوز أن تُتخذ أساساً للتفكير. وذلك أن الطريقة العلمية توجِد نتيجة ظنية عن وجود الشيء وعن صفته. وأمّا الطريقة العقلية فإنها تُعطي نتيجة قطعية عن وجود الشيء وعن وجود صفات معينة له. وإن كانت تعطي نتيجة ظنية عن كنه الشيء وحقيقة صفته، فهي من حيث حكمها على وجود الشيء ووجود صفات معينة له قطعية يقينية فيجب أن تُتخذ هي أساساً للبحث باعتبار أن نتائجها قطعية. وعلى هذا فلو تعارضت نتيجة عقلية مع نتيجة علمية عن وجود الشيء وعن وجود صفة معينة له، تؤخذ النتيجة العقلية حتماً، وتُترك النتيجة العلمية التي تتعارض مع النتيجة العقلية، لأن القطعي هو الذي يؤخذ لا الظني.
ومن هنا كان الخطأ الموجود في العالِم هو اتخاذه للطريقة العلمية أساساً للتفكير، وجعلها حكماً في الحكم على الأشياء، فيجب أن يصحح هذا الخطأ، ويجب أن تصبح الطريقة العقلية هي أساس التفكير وهي التي يُرجع إليها في الحكم على الأشياء.
يوجد عند الناس خلط بين الأفكار الاستنتاجية الناتجة عن الطريقة العقلية والأفكار العلمية الناتجة عن الطريقة العلمية، وبناء على هذا الخلط يعتبرون ما يسمى علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية علماً، ويعتبرون أفكارها أفكاراً علمية، لأنها جاءت بناء على ملاحظات جرى تتبعها على الأطفال في ظروف مختلفة وأعمار مختلفة؛ أو جرى تتبعها على جماعات مختلفة في ظروف مختلفة؛ أو على أعمال مختلفة لأشخاص مختلفين في ظروف مختلفة، فسمّوا تكرار هذه الملاحظات تجارب.
والحقيقة أن أفكار علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية ليست أفكاراً علمية، وإنّما هي أفكار عقلية، لأن التجارب العلمية هي إخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة أثر هذا الإخضاع، أي هي إجراء التجارب على نفس المادة كتجارب الطبيعة والكيمياء. أمّا ملاحظة الشيء في أوقات وأحوال مختلفة فليس بتجارب علمية. وعليه فملاحظة الطفل في أحوال مختلفة وأعمار مختلفة، وملاحظة الجماعات في بلدان مختلفة وظروف مختلفة، وملاحظة الأعمال من أشخاص مختلفين وفي أحوال مختلفة، كل ذلك لا يدخل في بحث التجارب العلمية، فلا يعتبر طريقة علمية، وإنّما هو ملاحظة وتكرار للملاحظة واستنتاج فحسب. فهو طريقة عقلية وليست علمية. وعليه فإن أفكار ما يسمى علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية أفكار عقلية وتدخل في الثقافة ولا تدخل في العلم.
على أن علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية هي أمور ظنية قابلة للخطأ وليست من الأمور القطعية، فلا يصح أن تُتخذ أساساً للحكم على الأشياء ولا يجوز أن يُستدل بها على صحة الأشياء أو عدم صحتها، لأنها ليست من قبيل الحقائق العلمية أو القوانين العلمية حتى يقال هي صواب حتى يثبت خطؤها، بل هي معارف ظنية جاءت عن طريق الظن. وهي وإن كان قد تُوصّل إليها بالطريقة العقلية ولكنها ليست من قبيل الحكم بوجود الأشياء بل هي من قبيل الحكم على حقيقة الشيء ما هو، وهذا الحكم ظني قطعاً فيه قابلية الخطأ. على أن هذه المعارف الثلاث: علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية مبنية على أسس مغلوطة، وهذا ما جعل كثيرا من الأفكار التي احتوتها أفكاراً مغلوطة.
وذلك لأن علم النفس مبني في جملته على نظرته للغرائز ونظرته للدماغ. فهو ينظر إلى أن في الإنسان غرائز كثيرة منها ما اكتُشف ومنها ما لم يُكتشف، وبنى علماء النفس على هذه النظرة للغرائز نظريات خاطئة، فكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى الخطأ في كثير من الأفكار الموجودة في علم النفس. أمّا النظرة إلى الدماغ، فإن علم النفس يعتبر الدماغ مقسماً إلى مناطق وأن كل منطقة لها قابلية خاصة، وأن في بعض الأدمغة قابليات ليست موجودة في أدمغة أخرى. وبناء على هذا فإن بعض الناس فيهم قابلية لفهم اللغات وليس فيهم قابلية لفهم الرياضيات، وهناك أشخاص على العكس فيهم قابلية لفهم الرياضيات وليس فيهم قابلية فهم اللغات. وهكذا بُنيت على هذه النظرة الخاطئة نظريات خاطئة. فكان هذا أيضاً من الأسباب التي أدت إلى الخطأ في كثير من الأفكار الموجودة في علم النفس.
والحقيقة في هذا كله هي: أن المشاهَد بالحس مِن تتبُّع الرجْع أو رد الفعل أن الإنسان فيه طاقة حيوية لها مظهران: أحدهما يتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم يُشبَع يموت الإنسان والثاني يتطلب الإشباع وإذا لم يُشبَع يبقى الإنسان حياً ولكنه يتألم وينزعج من عدم الإشباع. والمظهر الأول يتمثل في الحاجات العضوية كالجوع والعطش وقضاء الحاجة، والمظهر الثاني يتمثل في الغرائز وهي غريزة التدين وغريزة النوع وغريزة البقاء. وهذه الغرائز هي الشعور بالعجز والشعور ببقاء النوع والشعور ببقاء الذات ولا يوجد غير ذلك. وما عدا هذه الغرائز الثلاث هي مظاهر للغرائز كالخوف والسيادة والملكية مظاهر لغريزة البقاء، وإكبار الأبطال والعبادة مظاهر لغريزة التدين، والميل الجنسي والأبوة والأمومة والأخوة مظاهر لغريزة النوع. وهكذا كل مظهر من المظاهر يرجع إلى غريزة من هذه الغرائز.
هذا من ناحية الغرائز، أمّا من ناحية الدماغ، فالحقيقة هي أن الدماغ واحد وأنّ تفاوت الأفكار واختلافها نابع لتفاوت المحسوسات والمعلومات السابقة واختلافها، وتابع لتفاوت قوة الربط. وأنه لا توجد في دماغ قابلية لا توجد في الآخر بل جميع الأدمغة فيها قابلية الفكر في كل شيء متى توفر الواقع المحسوس والحواس والمعلومات السابقة والدماغ. وإنّما تتفاوت الأدمغة في قوة الربط وفي قوة الإحساس كما تتفاوت العيون في قوة الإبصار وضعفه، وكما تتفاوت الآذان في قوة السمع وضعفه. ولذلك يمكن إعطاء كل فرد أي معلومات وفيه قابلية لهضمها، ولا أساس لما جاء في علم النفس من القابليات للأدمغة أو للدماغ الواحد.
وعلى هذا فاعتبار علم النفس للغرائز اعتباراً خاطئاً، واعتباره للدماغ اعتباراً خاطئاً أدى إلى خطأ النظريات التي بُنيت على أساسها.
أمّا علم الاجتماع فمبني في جملته على نظرته للفرد والمجتمع، فهي مبنية على النظرة الفردية. ولهذا تنتقل نظرتها من الفرد إلى الأسرة، وإلى الجماعة، وإلى المجتمع، على اعتبار أن المجتمع مكون من أفراد. ولهذا تعتبر المجتمعات منفصلة وأن ما يصلح لمجتمع لا يصلح لمجتمع آخر. وبنى علماء الاجتماع على هذه النظرة نظريات خاطئة، وكان ذلك السبب الرئيسي الذي أدى إلى الخطأ في أفكار علم الاجتماع.
والحقيقة هي أن المجتمع ليس مكوناً من أفراد مطلقاً، فالفرد مع الفرد مع الفرد يكوّنون جماعة وليس مجتمعاً، والجماعة لا تشكل مجتمعاً إلاّ إذا نشأت بين أفرادها علاقات دائمية، فإذا لم تنشأ علاقات ظلوا جماعة. ومن هنا كان وجود عشرة آلاف شخص مسافرين في باخرة لا يجعل منهم مجتمعاً بل يظلون جماعة، ولكن وجود مائتي شخص في قرية يشكلون مجتمعاً لِما بينهم من علاقات دائمية. فوجود العلاقة الدائمية بين الجماعة هو الذي يجعل منهم مجتمعاً. فالبحث في المجتمع يجب أن يكون بحثاً في العلاقات لا بحثاً في الجماعة. إلاّ أن الذي يوجِد هذه العلاقة بين الأفراد إنّما هو المصلحة التي لهم، فإذا كانت هنالك مصلحة لهم نشأت بينهم علاقة، وإذا لم تكن هناك مصلحة لا تنشأ علاقات. والمصلحة لا تُنشئ علاقة إلاّ إذا اجتمعت فيها ثلاثة أمور: أحدها أن يتوحد فكر الطرفين على اعتبار أن هذه مصلحة، فإذا رآها أحدهما مصلحة والآخر رآها مفسدة لا تنشأ بينهما علاقة، فلأجل أن تنشأ العلاقة يجب أن يراها كل منهما أنها مصلحة. والثاني أن تتوحد المشاعر على المصلحة، فإذا فرح لها الطرفان أو غضبوا منها تكوّنت علاقة، أمّا إذا فرح بها أحدهما وغضب منها الآخر لا تنشأ منها علاقة. والثالث أن يتوحد النظام الذي ينظم هذه المصلحة، فإذا نظم أحد الطرفين المصلحة على نظام ورفض الآخر هذا النظام ونظمها على نظام آخر لا تنشأ بينهما علاقة، فلا بد أن يتفق الطرفان على كيفية تنظيم المصلحة لهما.
فبتوحيد الأفكار والمشاعر والأنظمة في الأفراد ينشأ المجتمع. إلاّ أن هؤلاء الأفراد يُنشئون مجتمعاً معيناً خاصاً بهم، فإذا أرادوا ضم غيرهم لهم من مجتمعات أخرى، كان عليهم أن ينقضوا الأفكار والمشاعر والنظام عند الطرفين بأفكار ومشاعر وأنظمة أخرى للجميع حتى يكوّنوا مجتمعاً، ولذلك لا يكون تعريف المجتمع بالأفراد منطبقاً على المجتمع المبدئي وإنّما ينطبق على مجتمع خاص.
أمّا المجتمع بمعناه الصحيح فهو مكون من الإنسان والأفكار والمشاعر والأنظمة، وأن ما يصلح من أفكار ومعالَجات للإنسان في مكان ما يصلح للإنسان في كل مكان ويحوّل المجتمعات المتعددة إلى مجتمع واحد تصلحه الأفكار والمشاعر والأنظمة.
والفرق بين الإنسان والفرد، أنك حين تبحث محمداً وخالداً وحسناً بما لكل منهم من صفات لا يشاركه فيها غيره من بني الإنسان طبيعياً فتكون قد بحثتَ فيه باعتباره فرداً، وإذا بحثتَ محمداً وخالداً وحسناً بما عنده من أمور فطرية طبيعية موجودة عند بني الإنسان طبيعياً فتكون قد بحثتَ فيه باعتباره إنساناً وإن كنت تبحث أشخاصاً معينين. ومن هنا كان إصلاح المجتمع إصلاحاً جذرياً إنّما يكون ببحث المجتمع باعتباره إنساناً وأفكاراً ومشاعر وأنظمة لا باعتباره فرداً. فالنظرة إذن نظرة إنسانية لا نظرة فردية حتى لو بُحثت في فرد معين.
هذا هو تعريف المجتمع، وهذه هي النظرة الصحيحة له. وهذا هو واقع المجتمع وواقع الجماعة وواقع الفرد. وبهذا يتبين أن خطأ النظرة إلى المجتمع ترتب عليها خطأ النظريات، وترتب عليها خطأ علم الاجتماع في جملته.
أمّا ما جاء في علم الاجتماع عن الجماعة من حيث الضعف العام في إدراك الأمور لها عن الفرد الواحد، ومن ناحية قربها لإثارة المشاعر أكثر من الفرد، فالصحة فيه ليست آتية من ناحية النظرة إلى المجتمع وإنّما هي آتية من حيث غلبة المعلومات الكثيرة المترددة على المعلومات الفردية فتتحكم بالحكم على الواقع، وآتية من حيث أن مظهر القطيع الذي يظهر في الجماعة يثير المشاعر لأنه من مظاهر غريزة البقاء.
وعلى ذلك فإن كل ما بُني على النظرة إلى المجتمع فهو فاسد، وما صح منه تكون صحته آتية من كونه ناتجاً عن سبب آخر لا عن النظرة إلى المجتمع. وعلى هذا فإن علم الاجتماع فاسد لأنه مبني على نظرة فاسدة وهي النظرة إلى المجتمع والفرد.
أمّا علوم التربية فهي مبنية على علم النفس ومتأثرة بنظريات علم الاجتماع، وناتجة عن ملاحظة أعمال الأفراد وأحوال الأطفال. وهذا يجعل علوم التربية مختلط فيها الصحيح بالفاسد، فما بُني على علم النفس وتأثر بعلم الاجتماع فهو فاسد. وفساده هذا أدى إلى الوقوع في أفكار تربوية فاسدة أدت إلى فساد مناهج التعليم وطرقه. فاعتبار الطفل غير قابل لبعض العلوم وقابلاً للبعض الآخر اعتبار فاسد، ولذلك كان تقسيم التعليم إلى علمي وأدبي وترك الشخص يختار حسب استعداده/ من أفسد الأمور. فهو مخالف للواقع ومُضِر في صالح الأمّة. واعتبار الشخص غير قابل لتعلم بعض العلوم وقابلاً لغيرها اعتبار فاسد أيضاً، وقد أدى إلى حرمان الكثيرين من تعلم بعض العلوم وحرمان الكثيرين من مواصلة التعليم.
أمّا ما بُني من علوم التربية على ملاحظة الأطفال وملاحظة أعمال الأفراد في ظروف وأحوال مختلفة، فإنّ ما كان منها موافقاً للواقع صحيح الاستنتاج كالتعب والراحة والنشاط الذهني وما شاكل ذلك، فإنه صحيح في جملته. وما كان منها غير موافق للواقع مثل تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول وإعطاء أربعة أشهر عطلة للتلميذ، ومثل الامتحانات وما شاكلها فإنه خطأ في جملته. ومن هنا جاء خطأ النظريات التربوية وفساد علوم التربية في جملتها، وخاصة فيما بُني على علم النفس وتأثر بعلم الاجتماع.
الطريقة العلمية والطريقة العقلية
الطريقة العلمية هي منهج معين في البحث يُسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يُبحث عنه عن طريق إجراء تجارب على الشيء، ولا تكون إلاّ في بحث المواد المحسوسة، ولا يتأتى وجودها في بحث الأفكار. وهي تكون بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية التي أُخضعت لها ثم تُستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال في المختبرات.
وتفرض هذه الطريقة التخلي عن جميع المعلومات السابقة عن الشيء الذي يُبحث وعدم وجودها، ثم تبدأ بملاحظة المادة وتجربتها، لأنها تقتضيك إذا أردت بحثاً أن تمحو من نفسك كل رأي وكل إيمان سابق لك في هذا البحث وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية، فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبِت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.
فالنتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العلمية هي مع تسميتها حقيقة علمية أو قانوناً علمياً فإنها ليست قطعية وإنّما هي ظنية فيها قابلية الخطأ. وقابلية الخطأ هذه في الطريقة العلمية أساس من الأساس التي يجب أن تلاحَظ فيها حسب ما هو مقرر في البحث العلمي. وقد حصل الخطأ في نتائجها بالفعل وظهر ذلك في كثير من المعارف العلمية التي تبيَّن فسادها بعد أن كان يُطلَق عليها حقائق علمية. فمثلاً الذرّة كان يقال عنها إنها أصغر جزء في المادة ولا تنقسم، فظهر خطأ ذلك وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها تنقسم.
وعلى هذا تكون الطريقة العلمية خاصة بالمادة لأن من أسسها الرئيسية التجربة على المادة بإخضاعها لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وهذا لا يتأتى في الفكر إذ لا يمكن أن تجري عليه تجربة. وعلى هذا أيضاً تكون النتائج التي يُتوصل إليها في الطريقة العلمية نتائج ظنية وليست قطعية، وفيها قابلية الخطأ.
أمّا الطريقة العقلية فهي منهج معين في البحث يُسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يُبحث عنه عن طريق نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها الواقع، فيُصدر الدماغ حكمه عليه. وهذا الحكم هو الفكر أو الإدراك العقلي. وتكون في بحث المواد المحسوسة وفي بحث الأفكار، وهي الطريقة الطبيعية في الوصول إلى الإدراك من حيث هو، وعمليتها هي التي يتكون بها عقل الأشياء أي إدراكها، وهي نفسها تعريف للعقل، وعلى منهجها يصل الإنسان من حيث هو إنسان إلى إدراك أي شيء سبق أن أدركه أو يريد إدراكه.
إلاّ أن النتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العقلية يُنظر فيها: فإن كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الشيء فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقاً ولا بحال من الأحوال. وذلك لأن هذا الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطريقة قطعي.
أمّا المغالطات التي تحصل فيخطئ فيها الحس مثل رؤية السراب وظنه أنه ماء ورؤية القلم الصحيح المستقيم وهو في كوب من الماء أنه مكسور أو أعوج، فليس خطأ في وجود الواقع وإنّما هو خطأ في صفات الواقع، فهو لم يخطئ في وجود شيء وهو السراب أو القلم، وإنّما أخطا في صفة الشيء فقال عن السراب إنه ماء وعن القلم الصحيح المستقيم إنه مكسور أو أعوج.
وهكذا في جميع الأشياء مهما حصلت فيها من مغالطات، فإن الحس لا يمكن أن يخطئ في وجودها، فهو حين يحس بوجود شيء يكون هذا الشيء موجوداً قطعاً، والحكم على وجوده يكون قطعياً. أمّا إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الشيء أو صفته فإنها تكون نتيجة ظنية فيها قابلية الخطأ، لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ولكنها تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها وحينئذ فقط يُحكم عليها بالخطأ، وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صحيحاً.
أمّا البحث المنطقي فليس طريقة في التفكير وإنّما هو أسلوب من أساليب البحث المبنية على الطريقة العقلية، لأن البحث المنطقي هو بناء فكر على فكر بحيث يُنتهى إلى الحس والوصول عن طريق هذا البناء إلى نتيجة معينة مثل: لوح الكتابة خشب، وكل خشب يحترق، فتكون النتيجة أن لوح الكتابة يحترق. ومثل: لو كان في الشاة المذبوحة حياة لتحركت لكنها لم تتحرك، فتكون النتيجة أنه لا توجد في الشاة المذبوحة حياة، وهكذا. فقد قرنت في المثال الأول فكرة كل خشب يحترق مع فكرة لوح الكتابة خشب، فنتج عن هذا الاقتران أن لوح الكتابة يحترق. وقرن في المثال الثاني كون الشاة المذبوحة لم تتحرك مع فكرة أن الحياة في الشاة تجعلها تتحرك، فنتج عن هذا الاقتران أن الشاة المذبوحة لا توجد فيها حياة.
فهذا البحث المنطقي إذا كانت قضاياه التي تتضمن الأفكار التي جرى اقترانها صادقة، تكون النتيجة صادقة، وإذا كانت كاذبة تكون النتيجة كاذبة. وشرط المقدمات أن تنتهي كل قضية منها إلى الحس، ولذلك ترجع إلى الطريقة العقلية ويحكم فيها الحس حتى يُفهم صدقها. ومن هنا كانت أسلوباً من الأساليب المبنية على الطريقة العقلية وفيها قابلية الكذب وفيها قابلية المغالطة، وبدل أن يُختبر صدق المنطق بالرجوع إلى الطريقة العقلية فالأوْلى أن تُستعمل الطريقة العقلية في البحث ابتداءً وأن لا يُلجأ إلى الأسلوب المنطقي. وإن كان يمكن أن يُستعمل إذا صحت قضاياه بإرجاعها إلى الطريقة العقلية.
وعلى هذا فإن للتفكير طريقتين اثنتين فقط هما: الطريقة العلمية والطريقة العقلية. والأولى تفرض التخلي عن المعلومات السابقة، والثانية تحتم وجود المعلومات السابقة. والطريقة العقلية هي الأساس في التفكير وبها وحدها ينشأ الفكر، وبدونها لا ينشأ فكر ولا يتأتى أن توجد الطريقة العلمية ولا الأسلوب المنطقي ولا غير ذلك. فبواسطة الطريقة العقلية يوجد إدراك الحقائق العلمية بالملاحظة والتجربة والاستنتاج؛ وبواسطتها يوجد إدراك الحقائق المنطقية في المنطق وما شابهه؛ وبواسطتها يوجد إدراك حقائق التاريخ وتمييز الخطأ من الصواب فيها؛ وبواسطتها توجد عند الإنسان الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، وعن حقائق الكون والإنسان والحياة.
أمّا الطريقة العلمية فإنها لا يمكن أن توجَد ولا يتأتى أن تكون إلاّ إذا بُنيت على الطريقة العقلية وعلى ما ثبت بالطريقة العقلية. فمن الطبيعي، ومن المحتم، أن لا تكون هي أساساً للتفكير. على أن الطريقة العلمية تقضي بأن كل ما لا يُلمس مادياً لا وجود له في نظر الطريقة العلمية، وإذن لا وجود للمنطق ولا للتاريخ وغيرهما، لأن ذلك لم يثبت علمياً، أي لم يثبت عن طريق ملاحظة المادة وتجربتها والاستنتاج المادي للأشياء الملموسة، وهذا هو الخطأ الفاحش، لأن العلوم الطبيعية فرع من فروع المعرفة، وفكر من الأفكار، وباقي معارف الحياة كثيرة، وهي لم تثبت بالطريقة العلمية، بل تثبت بالطريقة العقلية، ولذلك لا يجوز أن تُتخذ الطريقة العلمية أساساً للتفكير. والذي يجب أن يُتخذ أساساً للتفكير هو الطريقة العقلية وحدها.
على أن هذا لا يعني أن الطريقة العلمية طريقة خاطئة، بل الخطأ هو جعلها أساساً للتفكير، لأن جعلها أساساً لا يتأتى إذ هي ليست أصلاً يُبنى عليها وإنّما هي فرع بُني على أصل، ولأن جعلها أساساً يُخرِج أكثر المعارف والحقائق عن البحث، ويؤدي إلى الحكم على عدم وجود كثير من المعارف التي تُدرس والتي تتضمن حقائق مع أنها موجودة بالفعل، وملموسة بالحس والواقع.
على أن الطريقة العلمية ظنية وقابلية الخطأ فيها أساس من الأسس التي يجب أن تلاحَظ فيها، فلا يجوز أن تُتخذ أساساً للتفكير. وذلك أن الطريقة العلمية توجِد نتيجة ظنية عن وجود الشيء وعن صفته. وأمّا الطريقة العقلية فإنها تُعطي نتيجة قطعية عن وجود الشيء وعن وجود صفات معينة له. وإن كانت تعطي نتيجة ظنية عن كنه الشيء وحقيقة صفته، فهي من حيث حكمها على وجود الشيء ووجود صفات معينة له قطعية يقينية فيجب أن تُتخذ هي أساساً للبحث باعتبار أن نتائجها قطعية. وعلى هذا فلو تعارضت نتيجة عقلية مع نتيجة علمية عن وجود الشيء وعن وجود صفة معينة له، تؤخذ النتيجة العقلية حتماً، وتُترك النتيجة العلمية التي تتعارض مع النتيجة العقلية، لأن القطعي هو الذي يؤخذ لا الظني.
ومن هنا كان الخطأ الموجود في العالِم هو اتخاذه للطريقة العلمية أساساً للتفكير، وجعلها حكماً في الحكم على الأشياء، فيجب أن يصحح هذا الخطأ، ويجب أن تصبح الطريقة العقلية هي أساس التفكير وهي التي يُرجع إليها في الحكم على الأشياء.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى