هل التقمص ضروري لتحقيق العدل
هل التقمص ضروري لتحقيق العدل
هل التقمص ضروري لتحقيق العدل
التقمص مفهوم فلسفي ، يدل على وجود عدة حيوات للإنسان الواحد في الدنيا ، تظهر بأجسام مختلفة في زمان ومكان آخر ، بمثابة فرص ليقوم الإنسان بتطهير نفسه ، وذلك لتحقيق العدل الإلهي .
لقد قمت بصياغة البحث بصورة حوار بين اثنين ، وذلك لمشاركة القارئ ، وتفاعله النفسي مع أسلوب الحوار ، ولتسهيل فهم الأفكار والبراهين من خلال عرض الفكر ، والفكر المضاد له .
إبراهيم : مرحباً أخ إدريس ؛ كيف حالك ؟
إدريس : أهلاً بك ؛ الحمد لله بخير ؛ وأنت كيف حالك ؟
إبراهيم : الحمد لله ؛ نعيش بفضله وعنايته ورحمته .
إدريس : سوف أدخل في نقاش موضوع التقمص فوراً ، وذلك لأنه يثير قلقي ، ويشغل ذهني منذ فترة ، ولم أستطع أن أصل إلى رأي استقر عليه .
إبراهيم : لا مانع من البداية في الحوار ، وقم بأداء دور الذي يتبنى مفهوم التقمص ، ودافع عنه بأقصى ما عندك من أدلة وبراهين ، وسوف أقوم بتحليلها وتركيبها ، وربطها مع الواقع ، وتفنيد أدلتها في حال ظهور ضعفها ، وانتفاء تماسكها .
إدريس : حسناً ! هذا الأسلوب يساعدني في عرض الفكرة بصورة قوية ، وأستطيع أن أرتب أفكاري وأدلتي ، هيا قم بعرض أسئلتك ؟
إبراهيم : ماذا تعني كلمة تقمص ؟
إدريس : إن كلمة ( تقمص ) أتت من ( قمص ) ، التي تدل على وقف ، أو قطع شديد بجمع متصل منته بحركة محددة ، وظهر ذلك بصور كثيرة في الواقع ، مثل؛ الرداء الذي يلبسه الإنسان ، واسمه قميصاً ، وحرف (التاء ) ، في كلمة (تقمص) ، هي تاء الجهد ، التي تدل على دفع خفيف .
إبراهيم : نعم ؛ ونستخدم ذلك للآبار ، فنضع أثناء حفرها اسطوانات حديدية في داخل الأرض لحماية البئر من انهيار جدرانه ، ويسمونها قمصاناً ، وذلك لأنها تنزل في البئر مثل القميص الذي يلبسه الإنسان .
إدريس : إن مثلك هذا ، قد أوضح لي فكرة ؛ وهي أن فعل التقمص أمر يتعلق بطبيعة الشيء فيمكن أن يكون التقمص خارجياً ، مثل قميص الإنسان ، أو داخلياً ، مثل قميص البئر .
إبراهيم : إن هذه الفكرة أوصلتنا إلى سؤال هام جداً ، ألا وهو ، هل التقمص فعل للنفس ، أو للجسم ؟
إدريس : إن فعل التقمص يتعلق بالنفس ؛ لا بالجسم .
إبراهيم : إذن ؛ الجسم سوف يهلك ، ويتحلل إلى عناصره الأولى التي خًُلق منها، بينما النفس تخرج منه ؛ لتدخل في جسم آخر في ذات اللحظة التي غادرت فيها الجسم الأول الفاني
إدريس : نعم ؛ إن النفس كائنة سرمدية ؛ لا تفنى ، أو تهلك ، وإنما تنتقل من جسم إلى آخر .
إبراهيم : إذاً ؛ موت الإنسان يقصد به خروج نفسه من جسده ، حيث يرجع الجسد إلى عناصره الأولى في التربة ، وتقوم النفس بالتقمص في جسم بشري آخر حديث عهد بالولادة ، أليس كذلك ؟
إدريس : نعم ؛ هذا مفهوم التقمص .
إبراهيم : هل عملية التقمص مستمرة للنفس بصورة دائمة ،أو لعدة مرات فقط ، ومن ثم يتم خروجها من هذا العالم الأرضي ؟
إدريس : إن مفهوم التقمص متعدد الرؤى .
أحدها ؛ يقول : باستمرار التقمص إلى ما لانهاية ، وبالتالي لا وجود لمفهوم البعث ، واليوم الآخر عندهم ، ويعتقدون أن الإنسان الصالح تتقمص نفسه في جسم بشري جديد ، والإنسان الشرير ، أو الفاسد تتقمص نفسه أجسام حيوانات ، وذلك عقاب له إلى فترة زمنية ، ويسمون ذلك ؛ مسخاً ، ومن ثم تعود نفسه لتتقمص جسماً بشرياً ، وهكذا تستمر الحياة الدنيا .
أما الرؤية الثانية للتقمص ؛ فتنطلق من إثبات اليوم الآخر ، والحساب ، فيقولون بوجوب إعطاء عدة فرص للإنسان ليقوم بتطهير نفسه ، وذلك من خلال منحه فعل التقمص ثلاثة مرات في الحياة الدنيا ، والتقمص عندهم لا يكون إلا في الأجسام البشرية ، بل ؛ ويحصر ذلك في النوع أيضاً ، بمعنى أن الإنسان الذكر تتقمص نفسه جسماً ذكرياً ، والأنثى تتقمص جسماً أنثوياً ، حيث يحافظ الإنسان على إنسانيته ، ونوعه في كل مراحل التقمص .
إبراهيم : وإلى أي الرأيين تميل أنت ؟
إدريس : أريد أن اسمع رأيك في مفهوم التقمص بصورة عامة .
إبراهيم : حسناً ؛ إن الرأي الأول الذي انطلق من نفي وجود اليوم الآخر ، هو رأي باطل يخالف العلم ، وذلك لأن الكون يسير في طريقه إلى الهلاك الحتمي ، وهذا برهان على وجود نهاية لهذا العالم ، وبداية لعالم جديد بنظام آخر ، وهذا ينقض مفهوم التقمص إلى ما لا نهاية في الحياة الدنيا.
إدريس : هل يمكن أن اعرف كيف أن فكرة نهاية ، أو هلاك العالم ينقض مفهوم التقمص الدائم ؟
إبراهيم : نعم ؛ إن التقمص الدائم كما عرضته أنت ، هو في الحقيقة تصور للحساب ثواباً أو عقاباً ، ويكون من خلال تقمص الإنسان الصالح في جسم بشري آخر ليعطي حياة واعية سعيدة ، وتقمص الإنسان الشرير في جسم حيوان ليعطي حياة شقية معذبة ، وهاتان الصورتان هما الثواب والعقاب ، فإذا تم توقف استمرار وجود الكون ، أو هلاكه ، اقتضى توقف عملية التقمص عند حد معين ، حيث يترتب عليها توقف الثواب أو العقاب ، وبحصول ذلك يتم نقض السبب أو الدافع لمفهوم التقمص ، وتبطل نظرية الثواب أو العقاب ، وإذا حصل ذلك انتفى عن واقع الإنسان مفهوم القيم ، والأخلاق ، والرادع ، والضمير ، ويصير مثل من يقول : ما هي إلا حياتنا الدنيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، فواقع حال هؤلاء مثل الدهريين تماماً .
أما الوجه الآخر لبطلان رأيهم ، فهو أن النفس كائنة سرمدية غير مادة الجسم ، فهي لا تفنى أو تهلك ، وعندما يهلك الكون ، ويتغير نظامه ، وتعود النفس التي اكتسبت مفاهيمها خلال مرحلة الحياة الأولى لتنزل في أجسام جديدة تتناسب مع العالم الجديد (اليوم الآخر) ، وحقيقة فناء الكون أو هلاكه ، وسرمدية النفس ، ينقضان بصورة قطعية مفهوم التقمص الدائم .
إدريس : بصراحة ؛ أنا أميل إلى مفهوم التقمص الثاني ، الذي يعتقد بوجود اليوم الآخر ، ولكن أحببت أن اسمع رأيك في مفهوم التقمص الدائم .
إبراهيم : لقد سمعت رأي ، فهل بقي في نفسك شك في بطلانه ؟
إدريس : كلا ؛ لقد ظهر لي بطلانه ، وأنه ليس رأياً علمياً .
إبراهيم : حسناُ ؛ ابدأ في عرض مفهوم التقمص المؤقت ؟
إدريس : إن من يعتقد بهذا المفهوم يعتمد على ثلاثة مسائل في إثباته ، وهي :
1-صفة العدل الإلهي .
2-القصص التي تجري في الواقع ، و لا يعرفون كيف تحصل .
3-بعض آيات القرءان ، وهذا خاص بالمسلمين الذين يؤمنون بالتقمص.
إبراهيم : حسناً ؛ لنناقش أدلتهم ، ونبدأ بالدليل الأول ؛ العدل الإلهي ، فماذا قالوا بهذا الصدد ؟
إدريس : لقد نظروا إلى واقع الناس ، فشاهدوا الغني والفقير ، والمريض والصحيح ، والقوي والعاجز ، وما شابه ذلك من تفاوت في فرص الحياة والتسهيلات ، فقالوا : لابد من تكافؤ الفرص ، وينبغي أن يُمنح الإنسان أكثر من فرصة ليعبر عن نفسه ، ويطهرها من آثامها ، وذلك من باب الفرصة الثالثة ؛ ثابتة ، وهذا لتحقيق العدل الإلهي ، وغير ذلك ، هو نقض لصفة العدل ، وظلم للإنسان .
إبراهيم : إذاً ؛ الأمر بداية ؛ ينتفي عنه وجود البرهان العلمي ، أو العقلي ، فالمفهوم قد تم بناءه على رؤية نفسية مشاعرية ، وذلك عندما ظنوا أن الفرصة الواحدة غير كافية ليعبر الإنسان عن نفسه ، وبالتالي ؛ لابد من إعطائه أكثر من فرصة ، وبناء على هذه الرؤية الظنية قالوا : إن صفتي العدل والحكمة الإلهية تقتضيان مفهوم التقمص ، ونفي التقمص ؛ ينقض كمال صفتي العدل والحكمة ، وهذه العلاقة الجدلية جعلوها برهاناً لإثبات مفهوم التقمص .
وهذا الأسلوب المنطقي هو مناورة ، وتلاعب بترتيب الأفكار، وبنائها على ذاتها ، وتحليلها والاستنباط منها ،
لذا ؛ لابد من إعادة عرض الأفكار ، وتحليلها وتركيبها من جديد .
أول مسألة ينبغي أن نثبتها ؛ هي أن الحياة الدنيا دار ابتلاء ، وامتحان في عمارة الأرض ، والخلافة فيها ، فمن الطبيعي ؛ بل اللازم أن يكون فيها القوي والضعيف ، الصالح والطالح ، العادل والظالم ، لأن الحياة الدنيا قائمة على قانون ثنائي ؛ و زوجي في العلاقات بين الأشياء ، ولا يمكن أن ينتفي أحدهما ، وافتراض نفي أحدهما ، هو رأي وهمي ، لأن كل واحد منهما يستمد وجوده من الآخر ، وإذا انتفى أحدهما ؛ انتفى الآخر ضرورة ، وهذا يدل في واقع الحال على أن الإنسان في حالة امتحان , وابتلاء دائمة ، سواء أكان ذلك بالخير أم بالشر ، بالصحة أم بالمرض ، وكل إنسان يأخذ جزاءه حسب مادة الابتلاء وصعوبتها ، وذلك لتحقيق العدل الإلهي بين الناس ، ويستحيل على الإنسان أن يدرك مقاصد ، وحِكم الله – عز وجل – في الواقع ، وتظهر معرفة هذه الأمور للناس عبر الزمان مع توسع مداركهم المعرفية ، وتطور أدواتهم العلمية ، فالإيمان ضروري للإنسان ، ونحن نتعامل مع عالم لا مرئي ، ما يعني أن دائرة الغيب أكبر بكثير من دائرة الشهادة ، والإيمان بالغيب مسألة علمية ؛ لا مجرد تصورات شخصية ، لأن المفاهيم الغيبية مؤسسة على عالم الشهادة ، حيث أن عالم الغيب أصل لعالم الشهادة ، وعالم الشهادة دليل على عالم الغيب .
المسألة الثانية ؛ افترضوا أن الحياة الدنيا بمرحلة واحدة غير كافية ليعبر الإنسان عن نفسه بها ، أو يطهرها من الآثام ، وبالتالي ألزموا الخالق لتحقيق عدله وحكمته أن يجعل للإنسان أكثر من فرصة في الحياة ، وقاموا بعكس الاستدلال ، فقالوا: إن صفتي العدل الإلهي وحكمته تقتضيان مفهوم التقمص !، وهذا الاستدلال باطل في واقع الحال من عدة وجوه :
أ- كيف لا تكون الفرصة الواحدة التي تأخذ حقها من الوقت ؛ غير كافية للتعبير عن مستوى الإنسان ؟
ب-إن إعطاء فرصة ثانية أو أكثر هي مسألة متعلقة بإرادة الخالق ، ولا يمكن أن نعرفها إلا إذا أخبرنا بها بصورة قطعية ، لا ظنية .
ت- ما هو البرهان العلمي على أن التقمص ثلاث مرات كاف لتحقيق العدل الإلهي ، ولظهور مستوى الإنسان بصورة قطعية ؟ ولماذا لا تستمر عملية التقمص حتى يصل الإنسان إلى صورة يثبت فيها أنه صار صالحاً ؟ وبالتالي يموت الموتة الأخيرة ، كما يقول بعض الفلاسفة ، وذلك لتحقيق صفة الرحمة الإلهية بجانب صفة العدل ؟
وكما هو ملاحظ في الرأي الأخير (استمرار التقمص مرات للوصول إلى طهارة النفس) أنه ينقض أساس مفهوم الابتلاء والامتحان ، ويبطل الثواب والعقاب ، فهو رأي باطل يناقض الواقع الثنائي الجدلي ، أما مسألة تحديد التقمص بثلاث مرات فقط ، فهذا أمر صدر من رغبة الإنسان ، ولم يصدر من الخالق نفسه ، وليس مشاهد على أرض الواقع .
ث-إن مفهوم التقمص ينقض صفة الحكمة الإلهية ؛ إذا كان الإله يريد النجاة للجميع ، ويصير مفهوم الابتلاء عبث ، كما أن وجود المعاناة والشقاء دون مفهوم الابتلاء ينقض صفة الرحمة الإلهية أيضاً !.
ج-إن مفهوم الامتحان والابتلاء يقتضيان إعطاء الإنسان العلم به ، والوقت الكافي ، والقدرة على القيام به ، وهذه الأمور قد تحققت في مرحلة حياة الإنسان في الدنيا ، منذ بلوغه بداية سن الرشد إلى موته ، ولا يصح قياس ذلك على الفرص التي تُعطى للرياضي مثلاً في أداء لعبته ، فهذا قياس باطل ، ألا ترى أن الرياضة ذات الوقت الطويل ، التي تحتوي في داخلها على احتمالات كثيرة لتحسين أداء الإنسان ورفع مستواه ، لا يُعطى فرصة أخرى أبداً ، ويتم الحكم عليه بناء عليها .
وهكذا حياة الإنسان في الدنيا ، فهي مرحلة كافية لظهور مستوى الإنسان ،وتزكية نفسه أو تدسيتها ، وبالتالي تصير الفرصة الثانية تكرار للأولى مهما تعددت ، أو اختلف مستوى الإنسان ، فإن ذلك يحصل ضمن دائرة التزكية ، أو دائرة التدسية ، ولا يمكن أن ينتقل من دائرة إلى أخرى .
إدريس : ولكنهم يقولون : عندما يحدث التقمص في جسم جديد تُفرغ النفس من كل ما اكتسبته من مفاهيم ( فرمتة )، وترجع إلى فطرتها مستعدة للتشكيل في صورة جديدة حسب البيئة والظروف التي ظهر فيها الإنسان .
إبراهيم : إن هذا الافتراض ينقض مفهوم التقمص ، ولا يثبته !.
إدريس : كيف ذلك ؟
إبراهيم : لنفترض أن زيداً يعيش في فرصته الأولى ، وقد قام بتشكيل شخصيته من حيث المفاهيم والسلوك ، وصار يُعرف بهذه الشخصية التي صارت هويته ودلالة عليه ، لأن الذي يميز الإنسان عن الآخر هو الشخصية ، لا الجسم ، ومات زيد من خلال مفارقة نفسه لجسمه ، والجسم كما هو مشاهد يرجع إلى أصله تراب وماء ، أما النفس فهي كائنة سرمدية ، فإن قلنا إن النفس يتم تفريغها من المفاهيم ، وإرجاعها إلى فطرتها ، نكون قد محونا شخصية زيد ، ومثل ذلك كمثل تشكيل آلة من عدة مواد ، حيث صارت آلة لها وظيفة واسم يميزها عن غيرها ، فإن قمنا بعملية تفكيك الآلة ، وإرجاع كل مادة إلى أصلها ، نكون قد محونا الآلة من وجودها الوظيفي ، ورجعت إلى أصلها مادة خام ، فإن قمنا بصنع آلة جديدة مختلفة في الوظيفة من ذات المواد ، لا نحصل على الآلة القديمة أبداً ، ومثل ذلك كمثل نظام ويندوز، فالأصل في نسخه الكثيرة ، التطابق في المضمون من حيث المحور الثابت ، أما عندما يصل إلى المستخدم يقوم بتعبئته بأوامر وبيانات جديدة خاصة به في المحور المتغير ، حسب حاجته ، وبذلك أعطى لنظام ويندوز هوية متعلقة بالمعلومات الجديدة ، فإذا قام بتفريغه ( فرمته ) يكون قد محى هوية النظام وخصوصيته ، وأرجعه إلى ما كان عليه أصلاً ، نسخة مثل غيره تماماً ، ينتظر من يشكله بشخصية جديدة .
وهكذا نفس الإنسان قبل دخولها في جسمه ، وتشكيلها على أرض الواقع الاجتماعي والبيئي ، فافتراض مسألة تفريغ نفس الإنسان ، ودخولها مرة ثانية في جسم جديد ، يترتب على ذلك ذهاب (فرمته) نفس زيد إلى الأبد ، وظهور نفس أخرى لا علاقة لها بزيد أبداً ، ما يعني أن كل حالة تقمص للنفس في حال حصولها تقوم على أنقاض الشخصية السابقة ، ولا يستطيعون نفي تفريغ النفس من مفاهيمها ، وما اكتسبته من رواسب أثناء حياتها ، لأن ذلك ينفي الحكمة من التقمص أصلاً ، ويُعيد الإنسان نفسه ، وإذا أصروا على التقمص مع إثبات تفريغ النفس ، يلزم من قولهم وجود حياة مستقلة لكل مرحلة على حدة ، وتكون بالنسبة إلى صاحبها الفرصة الوحيدة ، وفي النهاية سوف تفنى كل هذه الفرص بشخصياتها ، وبالتالي يكون الوجود هو لآخر شخصية تشكلت ، وإذا حصل ذلك فيعني أن صاحب الشخصية الأخيرة قد عاش مرة واحدة فقط لا غير ، فتأمل يا صاحبي !.
إدريس : يخطر في ذهني مسألة اختلاف عدد الولادات عن عدد الوفيات في المجتمع الإنساني ، إذ لو كان مفهوم التقمص في الواقع صواباً لتساوت حالة الولادات مع حالة الوفيات ، وبالتالي ثبت عدد سكان الأرض لا يزيد أو ينقص .
إبراهيم : هذه حالة من حالات التقمص ، فهم يقولون بالتقمص لثلاثة مرات فقط ، وبالتالي لابد من الموت الذي لا رجعة فيه للنفس ، وعندئذ يتم عملية النقص لعدد سكان الأرض ضرورة ، ويفسرون الزيادة بسبب خلق نفوس جديدة ، بجانب التقمص للنفوس القديمة .
وهذا الافتراض باطل في واقع الحال ، انظر على سبيل المثال لمجتمع توفي فيه ألف إنسان ، وولد فيه عشرة آلاف ، فالألف الذين ماتوا سوف يظهرون في شكل ولادات جديدة في مكان آخر ، والعشرة آلاف الذين وُلدوا ينبغي أن يكون جزء منهم – ولنفترض النصف – هو وفيات في مكان آخر، ظهرت في هذا المجتمع من جديد .
ولنقم بعملية التعويض ، حيث أن الألف الذين ماتوا ، هم الذين وُلدوا في مكان آخر ، فتصير النتيجة صفر ،لا زيادة ولا نقصان ، وإذا افترضنا أن نصف العشرة آلاف ؛ حالات ولادة لناس قد ماتوا في مكان آخر ، نصل إلى أن النفوس الجديدة هي خمسة آلاف فقط ، وبهذا المثال نصل إلى احتمالين :
الأول : ينبغي أن يكون عدد زيادة سكان الأرض بطيء جداً ، والواقع غير ذلك .
الثاني : ينبغي أن يكون عدد زيادة سكان الأرض أضعاف مضاعفة عن العدد الحالي ، وذلك لوجود التقمص ، والخلق الجديد للنفوس .
وحسب مفهوم التقمص يقتضي صواب الاحتمال الثاني ، ولتقريب المثل ، انظر إلى مجتمع ما ، وقم بوضع حالات أفراده في جدول يغطي كل حالات التقمص بفرصه الثلاثة ، والخلق الجديد للنفوس .
1- مجموعة تعيش في الفرصة الأولى .
2- مجموعة تعيش في الفرصة الثانية .
3- مجموعة تعيش في الفرصة الثالثة .
4- مجموعة ينتقلون من فرصة إلى أخرى ( ولادات تقمصية ).
5- مجموعة خُلقت حديثاً ( ولادات خَلقية ) .
6- مجموعة أنهت فرصتها الثالثة والأخيرة ( الوفاة دون رجعة )
فنصل إلى أن عدد تكاثر سكان الأرض ينبغي أن يكون مهولاً بصورة كبيرة جداً مثل النمل ، والواقع يشهد بخلاف ذلك !.
إدريس : إن مفهوم التقمص عقيدة يحملها عدد كبير من سكان الأرض ، وفيهم فلاسفة كبار ، فماذا تفسر ذلك ؟
إبراهيم : إن الفكرة تستمد صوابها من برهانها ، وليس من صاحبها ، أو من كثرة القائلين بها ، أو مكانتهم الفلسفية ، أو العلمية .
إدريس : هل أفهم من كلامك أنهم على ضلال ؟
إبراهيم : نعم ؛ إنهم على ضلال ، وهذا لا يعني الإجرام ، أو العداوة ، أو الكره والحقد ، وإنما يعني أنهم وقعوا في الوهم بسبب طريقة تفكيرهم ومنهجهم التي انتفى عنها صفة العلمية والواقعية ، ولا تنس أنهم في النهاية يؤمنون باليوم الآخر الذي هو أحد محاور الإيمان ، لذا ؛ أنا أعد أن إثبات مفهوم التقمص المؤقت ، أو نفيه ، سواء في النتيجة ، لأن كل إنسان يمكن أن يكون يمثل الحالة الأخيرة للتقمص ، وبالتالي فهو مسؤول عن شخصيته من حيث المفاهيم والسلوك .
إدريس : ماذا تفسر سبب هذه الظواهر التي يتداولونها لإثبات التقمص ؟
إبراهيم : عظيم ، لقد ذكرت كلمة ( تفسير ) في سؤالك ، وهي تدل على وجود انفعال وتفاعل الإنسان مع الحدث ، ومن هذا الوجه ينبغي أن تفرق بين حصول الحدث ، وتفسيره ، فالتفسير هو عملية تتم في الذهن بناء على معطيات معينة ، قد تكون داخلية من النفس ، وقد تكون خارجية من الواقع ، فإن كانت معطيات نفسية داخلية ، فهي إسقاط ما في النفس على الحدث ، وإن كانت خارجية مبنية على دراسة ، وتحليل وتركيب ، واستنتاج من الواقع ، فهي تفسير علمي مرتبط بالواقع.
والسؤال الذي يفرض ذاته هو ، هل مفهوم التقمص تفسير علمي للأحداث ، أو تفسير نفسي داخلي للأحداث ؟
بمعنى آخر ، إن من قال بالتقمص بناء على هذه القصص انطلق من نفي معرفة سبب حصول هذه الأحداث ، فقال : إذاً ؛ لابد من إثبات مفهوم التقمص ، فهو اعتمد على نفي العلم لإثبات المفهوم ، وهذه طريقة ضالة في تفسير الأحداث ، لأن نفي العلم عن كيفية حصول حدث ، لا يصلح أن يكون برهاناً لإثبات شيء ، فالعلم ؛ دراسة ، واكتشاف السبب ، والقانون الذي يحكم الشيء ، فإن لم تستطع الوصول إلى معرفة أسباب حصول الشيء ، ما ينبغي أن تهرب من الدراسة والعلم إلى تفاسير وهمية ، بل ؛ وتطالب الآخرين بنقضها ، وإثبات بطلانها !، فيصير مثلك مثل من سأل : من قام ببناء هذا السد على النهر ؟ فرد عليه آخر قائلاً: أنا الذي بنيته ، فأجابه السائل : ما برهانك على ذلك ؟ فرد عليه : هل أنت بنيت السد ؟ فقال السائل : لا ؛ لم أبن السد ، فأجابه : إذاً ؛ أنا الذي بنيته !.
وهذه الأحداث والقصص من هذا القبيل ، فعندما لم يعلموا على وجه الحقيقة سبب كيف حصلت في الواقع ، قالوا : عدم علمنا بالسبب ؛ برهان على مفهوم التقمص ، وإذا لم تصدق ذلك ، فأخبرنا عن سبب حصول الأحداث !!؟
إدريس : فعلاً إنها مناورة كلامية ، ومغالطة في التحليل والتركيب والاستنتاج !.
إبراهيم : إن معظم الضلال في الأرض حصل من طريقة تفكير وهمية ، ومقلوبة النتائج ، مثل مقولة : النفي برهان على الإثبات ، والصواب هو نفي النفي إثبات ، ونفي العلم عن شيء لا يصلح استخدامه برهان على إثبات شيء آخر .
إدريس : لقد وصلت بفضل من الله ، ثم بفضلك إلى ترتيب طريقة التفكير والتحليل ،وعرفت أن مفهوم التقمص ؛ وهم في وهم ، ولكن أريد أدرس وإياك بعض من النصوص القرآنية التي يستدل بها من يقول بالتقمص .
إبراهيم : إءتني بأهم النصوص ، وأصرحها في الدلالة على مفهوم التقمص ؟
إدريس : بعد أن قرأت النصوص التي يستدلون بها ، وجدت نصين هما العمدة في بناء مفهوم التقمص عندهم ، وهما :
1 - (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)
(البقرة 28 )
2 - ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) (غافر11).
إبراهيم : إن فهم النص القرآني لا يمكن أن يحصل من دلالة مفرداته فقط ، أو فصله من المنظومة القرآنية ودراسته وحده ، بل لابد من فهم المفردات لساناً ، وفهم النص وفق المنظومة الخاصة به ، وإسقاط ذلك على الواقع ، لأنه محل الخطاب ، والنص المعني بالدراسة ينتمي إلى منظومة الموت والحياة .
كلمة الموت ؛ تدل على فقدان الفاعلية ونفي إنتاج الطاقة ذاتياً ، وتشمل الموت المادي ، والموت الروحي ، اقرأ قوله تعالى : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ..) ( الأنعام122) .
كلمة الحياة ؛ تدل على الفاعلية والإنتاج للطاقة بصورة ذاتية ،وتشمل الحياة المادية ، والحياة الروحية .
وبناء على هذا التعريف صُنفت الكائنات الحية ، نحو ، الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والكائنات الميتة نحو، التراب ، والأخشاب ، والأحجار.
والنص القرآني الأول يثبت أن حالة الموت هي الأولى والسابقة عن الحياة ، اقرأ قوله تعالى : (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنها يأكلون ) ( يس 33 ). فالأرض بعناصرها هي مادة ميتة ، وفعل الحياة لها كان من خلال نزول الماء عليها فاهتزت وربت ، وأنتجت الزرع ، وصارت فاعلة ، وضمت في رحمها الحياة الفاعلة المتمثلة بالنبات ، وهذه صورة للحياة المادية .
والإنسان في أصله من تراب وماء ، وهما كائنات ميتة ، هذه صورة للموت ، والأخرى هي وجود البشر دون وعي وإدراك ، وهذا تفسير كلمة ( وكنتم أمواتاً ) وعملية الإحياء تمت بصورتيها مع فاصل زمني بينهما ، وهذا تفسير كلمة
( فأحياكم ) ، انظر إلى حرف ( ف ) الذي يدل على العطف والتعاقب ، وعملية جعل تكاثر الجنس الإنساني من ماء مهين فيما بعد ؛ لا ينفي أصل مادته الميتة التي خُلق منها ، انظر إلى أصل تكوين النطفة في الجسم كيف تحصل من كائنات ميتة بداية ، ويتابع النص ( ثم يميتكم ) انظر إلى حرف ( ثم ) الذي يدل على عطف مع التراخي في الزمن ، وهذا دليل على أن مرحلة الموت هذه تأتي بعد فترة زمنية للحياة يعيشها الإنسان في دار الابتلاء ، وهذا دلالة فعل المضارع ( يميتكم ) ويتابع النص ( ثم يحييكم ) أيضاً أتى حرف العطف ( ثم ) ليدل على أن مرحلة الموت السابقة سوف يمر عليها زمن ( يحييكم ) ،ويتابع النص ( ثم إليه ترجعون ) ليدل على أن عملية الرجوع إلى الله –عز وجل – سوف تكون بعد فترة زمنية من الإحياء .
خلاصة تفسير النص
1-كنتم أمواتاً ----- التراب والماء ، ووجودكم كائنات غير عاقلة .
2-فأحياكم ----- بدء الحياة للأجسام ، والنفخ فيه من الروح (الوعي ) .
3-ثم يميتكم ---- انتهاء حياة الإنسان في الدنيا بعد فترة من الحياة.
4-ثم يحييكم ---- عملية البعث والحياة في الآخرة بعد فترة من الموت
5-ثم إليه ترجعون --.-- بدء عملية الحساب بعد فترة من الإحياء.
اقرأ قوله تعالى : (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ) الحج 66) ، بدأ الله بفعل الحياة أولاً ، وهذا يقتضي ضمناً أننا كنا أمواتاً ، ثم عطف الموت على هذه الحياة بحرف ( ثم ) وعطف الحياة على الموت بحرف ( ثم ) ،ليصير النص يحدد ثلاث مراحل :
1-أحياكم ------ من بعد أن كنا مادة ميتة ( تراب وماء ) .
2-ثم يميتكم ---- من بعد حياتنا في الدنيا .
3-ثم يحييكم ---من بعد الموت في الدنيا ، وذلك البعث والحياة في الآخرة .
اقرأ قوله تعالى : (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) (الأنعام 95 ) .
1-يخرج الحي من الميت --- نمو الكائنات الحية ، والزرع من الأرض الميتة .
2-ومخرج الميت من الحي --- مثل الصوف والوبر والحليب والأخشاب.
إدريس : بناء على هذا التفسير لا يوجد أي دلالة لمفهوم التقمص في النص لا من قريب ، ولا من بعيد .
إبراهيم : نعم ؛ إنه كذلك ، فمفهوم التقمص قد تم إسقاطه على النص إسقاطاً بصورة تعسفية ، خالية من المنطق والدراسة الموضوعية ، انظر مثلاً لو جاريناهم في مفهومهم كيف يمكن أن نفهم النص ، أول جملة ( وكنتم أمواتاً ) أقول : الموت للشيء لابد له من أن يكون حياً أولاً ، وبالتالي مرحلة الموت الأولى يسبقها مرحلة حياة ضمناً قد سكت النص عنها ، وإذا كان الأمر كذلك ، أقول : إن مرحلة الحياة أيضاً لابد أن يسبقها مرحلة الموت ، وهكذا دواليك بصورة تسلسلية ، ومن المعلوم أن فرضية التسلسل للخلق باطلة ، ما يدل على أن جملة (وكنتم أمواتاً ) غير معنية بالصورة الإنسانية الحالية ، وإنما معنية بأصل خلق الإنسان ، الذي هو تراب وماء ضرورة ، وأتت جملة ( فأحياكم ) لتدل على بدء نشوء الحياة بأبسط صورها ، إلى أن وصلت إلى الصورة التي ارتضاها الخالق للإنسان .
إدريس : لا أريد أن أتعمق أكثر في الموضوع ، فالذي يهمني هو بطلان مفهوم التقمص ، لذا ؛ تابع تفسير النص القرآني الثاني ؟
إبراهيم : إن الأفكار مترابطة مع بعضها ، وتشد بعضها بعضاً ، ويصعب أحياناً أن تقف عند جزء منها ، ومع ذلك سأتابع تفسير النص الآخر .
2- ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) (غافر11.)
لاحظ استخدام النص لكلم (اثنتين) وهي غير كلمة ( مرتين ) ، فعلى ماذا تدل كل منهما ؟
مرتين : كلمة تدل على تكرار الحدث ، مع وجود فاصل زمني بينهما .
اقرأ قوله تعالى : [ الطلاق مرتان ] (البقرة 229)
وقوله [ ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً ] ( الأحزاب 31)
وقوله : [ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ...] (التوبة 126)
اثنتين : كلمة تدل على تكرار الحدث ، بصورة متصلة .
اقرأ قوله تعالى : [ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثُلثا ما ترك .] (النساء 11)
وقوله [ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ...] (النساء 176)
إذاً ، النص - ابتداءً - لا يتكلم عن مراحل الموت أو الحياة بصورة منفصلة عن بعضهما ، بل يتكلم عن مرحلة موتٍ أو حياة بصورتين ملتصقتين ، فما هما هاتان الصورتان ؟
بداية ، ينبغي أن نستحضر المفهوم الثابت لدينا ، المتعلق بالموت والحياة بصورتيه المادية والروحية ، الذي هو دلالة النص القرآني (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) (البقرة 28.)
1-( وكنتم أمواتاً) أي مواد ميتة ، التي هي التراب والماء، اقرأ قوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنها يأكلون ) ( يس 33 ).
2- (فأحياكم) بدء عملية الخلق للبشر،ثم نفخ النفس فيه من الروح ، ليصير عنده حياة الجسم ، وحياة الروح من خلال الوعي ، والإدراك ، والالتزام بالروح الكونية ، والشرعية ، وهاتان هما صورتي الحياة ( المادية والروحية ).
3- (ثم يميتكم) موت الإنسان بخروج نفسه من جسمه ، ويترتب على ذلك توقف فاعلية نفسه
إذاً ، لا يمكن للإنسان أن يموت اثنتين بصورة الموت الجسمي ، ما يؤكد - ضرورةً - أن دلالة (أمتنا اثنتين) متعلقة بالجسم ؛ وبشيء آخر غيره ، في وقت واحد ، ولدى الدراسة ، نجد أن صورة الموت الثانية ، هي موت روح الإنسان ، وكلمة الروح تدل على أمر الرب ، وفي الواقع ، هي مجموعة السنن والقوانين التي تحكم الوجود كله ( الروح الكونية ) ؛ وتدل على أمر الرب الشرعي ؛ الذي تمثل برسالته للناس ، اقرأ قوله تعالى: ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) (الشّورى 52.) ، ليصيرا روحاً واحدة منسجمتان مع بعضهما بعضاً - الروح الكونية ، والروح الشرعية - ، ويجب على الإنسان أن يلتزم بهما معاً ، ويتحرك في الكون وفق روحه ( سنن وقوانين ) ، ويتحرك -اجتماعياً - وفق روح المجتمع ، المنضبط بروح الشرع الإلهي ، فيصير هذا الإنسان حياًّ في جسمه ، وحياًّ في روحه ، أمّا الذي يكفر ، ويُفسد في الكون ، ويكفر بشرع الله ؛ يصير حياًّ في جسمه ، وميتاً في روحه ، التي يعقبها موت جسمه نهاية بصورة متصلة ، وهذه هي دلالة ( أمتنا اثنتين ).
أما دلالة ( أحييتنا اثنتين ) ، فالحياة الأولى للجسم ، وتكون من خلال البعث والحياة في الآخرة ، والثانية الملتصقة بها، هي حياة الروح عند الكفار، لمّا يدركون الحقيقة بأم أعينهم ، ويتطهرون من شركهم وأوهامهم بواسطة النار، لذلك قالوا : ) فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل )
أمّا المؤمنون فلا يذوقون إلا الموتة الأولى ؛ التي هي الموت الجسمي بعد حياتهم في الدنيا ، ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ] (الدخان 44)، فالمؤمنون يحيون في الدنيا اثنتين؛ حياة الجسم ، وحياة الروح ( فاعلية وإيمان وانسجام مع الكون)، ويموتون موتة واحدة ( موت الجسم )، ليحيون بعدها في الآخرة اثنتين؛ حياة الجسم ، وحياة الروح ( فكراً وتأملاً وسعادة وسروراً )، اقرأ قوله تعالى :
) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ) ( طه 74 )، فالكافر لا يموت في النار من الناحية الجسمية، فهو حي ، وليس هو حياً من الناحية النفسية ، فهو الميت الحي ، وما أكثرهم في الحياة الدنيا .
فيكون المؤمنون قد عاشوا حياتين فاعلتين سعيدتين ، في الدّنيا ، من خلال الالتزام بالرّوح التي أنزلها الله (القرآن) ، والروح الكونية، وفي الآخرة , من خلال فوزهم بالجنة , ورضوان الله عليهم .
قال تعالى أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) (الأنعام 122.) ، وقال: ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) (الشّورى 52.)
وقال: ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النّحل 97.)
إدريس : كفى ؛ لقد امتلأت فكراً ، ولم يعد متسع لغير ذلك ، سوف أفكر وأدرس ما عرضت علي من أفكار، وأدلة ، بصورة موضوعية ، رغم ظني أني قد وصلت إلى أن النصين القرآنيين ؛ لا يدلان على مفهوم التقمص أبداً .
إبراهيم : هذا من دواعي سروري ، والفضل أولاً ، وآخراً لله – عز وجل – على توفيقه .
التقمص مفهوم فلسفي ، يدل على وجود عدة حيوات للإنسان الواحد في الدنيا ، تظهر بأجسام مختلفة في زمان ومكان آخر ، بمثابة فرص ليقوم الإنسان بتطهير نفسه ، وذلك لتحقيق العدل الإلهي .
لقد قمت بصياغة البحث بصورة حوار بين اثنين ، وذلك لمشاركة القارئ ، وتفاعله النفسي مع أسلوب الحوار ، ولتسهيل فهم الأفكار والبراهين من خلال عرض الفكر ، والفكر المضاد له .
إبراهيم : مرحباً أخ إدريس ؛ كيف حالك ؟
إدريس : أهلاً بك ؛ الحمد لله بخير ؛ وأنت كيف حالك ؟
إبراهيم : الحمد لله ؛ نعيش بفضله وعنايته ورحمته .
إدريس : سوف أدخل في نقاش موضوع التقمص فوراً ، وذلك لأنه يثير قلقي ، ويشغل ذهني منذ فترة ، ولم أستطع أن أصل إلى رأي استقر عليه .
إبراهيم : لا مانع من البداية في الحوار ، وقم بأداء دور الذي يتبنى مفهوم التقمص ، ودافع عنه بأقصى ما عندك من أدلة وبراهين ، وسوف أقوم بتحليلها وتركيبها ، وربطها مع الواقع ، وتفنيد أدلتها في حال ظهور ضعفها ، وانتفاء تماسكها .
إدريس : حسناً ! هذا الأسلوب يساعدني في عرض الفكرة بصورة قوية ، وأستطيع أن أرتب أفكاري وأدلتي ، هيا قم بعرض أسئلتك ؟
إبراهيم : ماذا تعني كلمة تقمص ؟
إدريس : إن كلمة ( تقمص ) أتت من ( قمص ) ، التي تدل على وقف ، أو قطع شديد بجمع متصل منته بحركة محددة ، وظهر ذلك بصور كثيرة في الواقع ، مثل؛ الرداء الذي يلبسه الإنسان ، واسمه قميصاً ، وحرف (التاء ) ، في كلمة (تقمص) ، هي تاء الجهد ، التي تدل على دفع خفيف .
إبراهيم : نعم ؛ ونستخدم ذلك للآبار ، فنضع أثناء حفرها اسطوانات حديدية في داخل الأرض لحماية البئر من انهيار جدرانه ، ويسمونها قمصاناً ، وذلك لأنها تنزل في البئر مثل القميص الذي يلبسه الإنسان .
إدريس : إن مثلك هذا ، قد أوضح لي فكرة ؛ وهي أن فعل التقمص أمر يتعلق بطبيعة الشيء فيمكن أن يكون التقمص خارجياً ، مثل قميص الإنسان ، أو داخلياً ، مثل قميص البئر .
إبراهيم : إن هذه الفكرة أوصلتنا إلى سؤال هام جداً ، ألا وهو ، هل التقمص فعل للنفس ، أو للجسم ؟
إدريس : إن فعل التقمص يتعلق بالنفس ؛ لا بالجسم .
إبراهيم : إذن ؛ الجسم سوف يهلك ، ويتحلل إلى عناصره الأولى التي خًُلق منها، بينما النفس تخرج منه ؛ لتدخل في جسم آخر في ذات اللحظة التي غادرت فيها الجسم الأول الفاني
إدريس : نعم ؛ إن النفس كائنة سرمدية ؛ لا تفنى ، أو تهلك ، وإنما تنتقل من جسم إلى آخر .
إبراهيم : إذاً ؛ موت الإنسان يقصد به خروج نفسه من جسده ، حيث يرجع الجسد إلى عناصره الأولى في التربة ، وتقوم النفس بالتقمص في جسم بشري آخر حديث عهد بالولادة ، أليس كذلك ؟
إدريس : نعم ؛ هذا مفهوم التقمص .
إبراهيم : هل عملية التقمص مستمرة للنفس بصورة دائمة ،أو لعدة مرات فقط ، ومن ثم يتم خروجها من هذا العالم الأرضي ؟
إدريس : إن مفهوم التقمص متعدد الرؤى .
أحدها ؛ يقول : باستمرار التقمص إلى ما لانهاية ، وبالتالي لا وجود لمفهوم البعث ، واليوم الآخر عندهم ، ويعتقدون أن الإنسان الصالح تتقمص نفسه في جسم بشري جديد ، والإنسان الشرير ، أو الفاسد تتقمص نفسه أجسام حيوانات ، وذلك عقاب له إلى فترة زمنية ، ويسمون ذلك ؛ مسخاً ، ومن ثم تعود نفسه لتتقمص جسماً بشرياً ، وهكذا تستمر الحياة الدنيا .
أما الرؤية الثانية للتقمص ؛ فتنطلق من إثبات اليوم الآخر ، والحساب ، فيقولون بوجوب إعطاء عدة فرص للإنسان ليقوم بتطهير نفسه ، وذلك من خلال منحه فعل التقمص ثلاثة مرات في الحياة الدنيا ، والتقمص عندهم لا يكون إلا في الأجسام البشرية ، بل ؛ ويحصر ذلك في النوع أيضاً ، بمعنى أن الإنسان الذكر تتقمص نفسه جسماً ذكرياً ، والأنثى تتقمص جسماً أنثوياً ، حيث يحافظ الإنسان على إنسانيته ، ونوعه في كل مراحل التقمص .
إبراهيم : وإلى أي الرأيين تميل أنت ؟
إدريس : أريد أن اسمع رأيك في مفهوم التقمص بصورة عامة .
إبراهيم : حسناً ؛ إن الرأي الأول الذي انطلق من نفي وجود اليوم الآخر ، هو رأي باطل يخالف العلم ، وذلك لأن الكون يسير في طريقه إلى الهلاك الحتمي ، وهذا برهان على وجود نهاية لهذا العالم ، وبداية لعالم جديد بنظام آخر ، وهذا ينقض مفهوم التقمص إلى ما لا نهاية في الحياة الدنيا.
إدريس : هل يمكن أن اعرف كيف أن فكرة نهاية ، أو هلاك العالم ينقض مفهوم التقمص الدائم ؟
إبراهيم : نعم ؛ إن التقمص الدائم كما عرضته أنت ، هو في الحقيقة تصور للحساب ثواباً أو عقاباً ، ويكون من خلال تقمص الإنسان الصالح في جسم بشري آخر ليعطي حياة واعية سعيدة ، وتقمص الإنسان الشرير في جسم حيوان ليعطي حياة شقية معذبة ، وهاتان الصورتان هما الثواب والعقاب ، فإذا تم توقف استمرار وجود الكون ، أو هلاكه ، اقتضى توقف عملية التقمص عند حد معين ، حيث يترتب عليها توقف الثواب أو العقاب ، وبحصول ذلك يتم نقض السبب أو الدافع لمفهوم التقمص ، وتبطل نظرية الثواب أو العقاب ، وإذا حصل ذلك انتفى عن واقع الإنسان مفهوم القيم ، والأخلاق ، والرادع ، والضمير ، ويصير مثل من يقول : ما هي إلا حياتنا الدنيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، فواقع حال هؤلاء مثل الدهريين تماماً .
أما الوجه الآخر لبطلان رأيهم ، فهو أن النفس كائنة سرمدية غير مادة الجسم ، فهي لا تفنى أو تهلك ، وعندما يهلك الكون ، ويتغير نظامه ، وتعود النفس التي اكتسبت مفاهيمها خلال مرحلة الحياة الأولى لتنزل في أجسام جديدة تتناسب مع العالم الجديد (اليوم الآخر) ، وحقيقة فناء الكون أو هلاكه ، وسرمدية النفس ، ينقضان بصورة قطعية مفهوم التقمص الدائم .
إدريس : بصراحة ؛ أنا أميل إلى مفهوم التقمص الثاني ، الذي يعتقد بوجود اليوم الآخر ، ولكن أحببت أن اسمع رأيك في مفهوم التقمص الدائم .
إبراهيم : لقد سمعت رأي ، فهل بقي في نفسك شك في بطلانه ؟
إدريس : كلا ؛ لقد ظهر لي بطلانه ، وأنه ليس رأياً علمياً .
إبراهيم : حسناُ ؛ ابدأ في عرض مفهوم التقمص المؤقت ؟
إدريس : إن من يعتقد بهذا المفهوم يعتمد على ثلاثة مسائل في إثباته ، وهي :
1-صفة العدل الإلهي .
2-القصص التي تجري في الواقع ، و لا يعرفون كيف تحصل .
3-بعض آيات القرءان ، وهذا خاص بالمسلمين الذين يؤمنون بالتقمص.
إبراهيم : حسناً ؛ لنناقش أدلتهم ، ونبدأ بالدليل الأول ؛ العدل الإلهي ، فماذا قالوا بهذا الصدد ؟
إدريس : لقد نظروا إلى واقع الناس ، فشاهدوا الغني والفقير ، والمريض والصحيح ، والقوي والعاجز ، وما شابه ذلك من تفاوت في فرص الحياة والتسهيلات ، فقالوا : لابد من تكافؤ الفرص ، وينبغي أن يُمنح الإنسان أكثر من فرصة ليعبر عن نفسه ، ويطهرها من آثامها ، وذلك من باب الفرصة الثالثة ؛ ثابتة ، وهذا لتحقيق العدل الإلهي ، وغير ذلك ، هو نقض لصفة العدل ، وظلم للإنسان .
إبراهيم : إذاً ؛ الأمر بداية ؛ ينتفي عنه وجود البرهان العلمي ، أو العقلي ، فالمفهوم قد تم بناءه على رؤية نفسية مشاعرية ، وذلك عندما ظنوا أن الفرصة الواحدة غير كافية ليعبر الإنسان عن نفسه ، وبالتالي ؛ لابد من إعطائه أكثر من فرصة ، وبناء على هذه الرؤية الظنية قالوا : إن صفتي العدل والحكمة الإلهية تقتضيان مفهوم التقمص ، ونفي التقمص ؛ ينقض كمال صفتي العدل والحكمة ، وهذه العلاقة الجدلية جعلوها برهاناً لإثبات مفهوم التقمص .
وهذا الأسلوب المنطقي هو مناورة ، وتلاعب بترتيب الأفكار، وبنائها على ذاتها ، وتحليلها والاستنباط منها ،
لذا ؛ لابد من إعادة عرض الأفكار ، وتحليلها وتركيبها من جديد .
أول مسألة ينبغي أن نثبتها ؛ هي أن الحياة الدنيا دار ابتلاء ، وامتحان في عمارة الأرض ، والخلافة فيها ، فمن الطبيعي ؛ بل اللازم أن يكون فيها القوي والضعيف ، الصالح والطالح ، العادل والظالم ، لأن الحياة الدنيا قائمة على قانون ثنائي ؛ و زوجي في العلاقات بين الأشياء ، ولا يمكن أن ينتفي أحدهما ، وافتراض نفي أحدهما ، هو رأي وهمي ، لأن كل واحد منهما يستمد وجوده من الآخر ، وإذا انتفى أحدهما ؛ انتفى الآخر ضرورة ، وهذا يدل في واقع الحال على أن الإنسان في حالة امتحان , وابتلاء دائمة ، سواء أكان ذلك بالخير أم بالشر ، بالصحة أم بالمرض ، وكل إنسان يأخذ جزاءه حسب مادة الابتلاء وصعوبتها ، وذلك لتحقيق العدل الإلهي بين الناس ، ويستحيل على الإنسان أن يدرك مقاصد ، وحِكم الله – عز وجل – في الواقع ، وتظهر معرفة هذه الأمور للناس عبر الزمان مع توسع مداركهم المعرفية ، وتطور أدواتهم العلمية ، فالإيمان ضروري للإنسان ، ونحن نتعامل مع عالم لا مرئي ، ما يعني أن دائرة الغيب أكبر بكثير من دائرة الشهادة ، والإيمان بالغيب مسألة علمية ؛ لا مجرد تصورات شخصية ، لأن المفاهيم الغيبية مؤسسة على عالم الشهادة ، حيث أن عالم الغيب أصل لعالم الشهادة ، وعالم الشهادة دليل على عالم الغيب .
المسألة الثانية ؛ افترضوا أن الحياة الدنيا بمرحلة واحدة غير كافية ليعبر الإنسان عن نفسه بها ، أو يطهرها من الآثام ، وبالتالي ألزموا الخالق لتحقيق عدله وحكمته أن يجعل للإنسان أكثر من فرصة في الحياة ، وقاموا بعكس الاستدلال ، فقالوا: إن صفتي العدل الإلهي وحكمته تقتضيان مفهوم التقمص !، وهذا الاستدلال باطل في واقع الحال من عدة وجوه :
أ- كيف لا تكون الفرصة الواحدة التي تأخذ حقها من الوقت ؛ غير كافية للتعبير عن مستوى الإنسان ؟
ب-إن إعطاء فرصة ثانية أو أكثر هي مسألة متعلقة بإرادة الخالق ، ولا يمكن أن نعرفها إلا إذا أخبرنا بها بصورة قطعية ، لا ظنية .
ت- ما هو البرهان العلمي على أن التقمص ثلاث مرات كاف لتحقيق العدل الإلهي ، ولظهور مستوى الإنسان بصورة قطعية ؟ ولماذا لا تستمر عملية التقمص حتى يصل الإنسان إلى صورة يثبت فيها أنه صار صالحاً ؟ وبالتالي يموت الموتة الأخيرة ، كما يقول بعض الفلاسفة ، وذلك لتحقيق صفة الرحمة الإلهية بجانب صفة العدل ؟
وكما هو ملاحظ في الرأي الأخير (استمرار التقمص مرات للوصول إلى طهارة النفس) أنه ينقض أساس مفهوم الابتلاء والامتحان ، ويبطل الثواب والعقاب ، فهو رأي باطل يناقض الواقع الثنائي الجدلي ، أما مسألة تحديد التقمص بثلاث مرات فقط ، فهذا أمر صدر من رغبة الإنسان ، ولم يصدر من الخالق نفسه ، وليس مشاهد على أرض الواقع .
ث-إن مفهوم التقمص ينقض صفة الحكمة الإلهية ؛ إذا كان الإله يريد النجاة للجميع ، ويصير مفهوم الابتلاء عبث ، كما أن وجود المعاناة والشقاء دون مفهوم الابتلاء ينقض صفة الرحمة الإلهية أيضاً !.
ج-إن مفهوم الامتحان والابتلاء يقتضيان إعطاء الإنسان العلم به ، والوقت الكافي ، والقدرة على القيام به ، وهذه الأمور قد تحققت في مرحلة حياة الإنسان في الدنيا ، منذ بلوغه بداية سن الرشد إلى موته ، ولا يصح قياس ذلك على الفرص التي تُعطى للرياضي مثلاً في أداء لعبته ، فهذا قياس باطل ، ألا ترى أن الرياضة ذات الوقت الطويل ، التي تحتوي في داخلها على احتمالات كثيرة لتحسين أداء الإنسان ورفع مستواه ، لا يُعطى فرصة أخرى أبداً ، ويتم الحكم عليه بناء عليها .
وهكذا حياة الإنسان في الدنيا ، فهي مرحلة كافية لظهور مستوى الإنسان ،وتزكية نفسه أو تدسيتها ، وبالتالي تصير الفرصة الثانية تكرار للأولى مهما تعددت ، أو اختلف مستوى الإنسان ، فإن ذلك يحصل ضمن دائرة التزكية ، أو دائرة التدسية ، ولا يمكن أن ينتقل من دائرة إلى أخرى .
إدريس : ولكنهم يقولون : عندما يحدث التقمص في جسم جديد تُفرغ النفس من كل ما اكتسبته من مفاهيم ( فرمتة )، وترجع إلى فطرتها مستعدة للتشكيل في صورة جديدة حسب البيئة والظروف التي ظهر فيها الإنسان .
إبراهيم : إن هذا الافتراض ينقض مفهوم التقمص ، ولا يثبته !.
إدريس : كيف ذلك ؟
إبراهيم : لنفترض أن زيداً يعيش في فرصته الأولى ، وقد قام بتشكيل شخصيته من حيث المفاهيم والسلوك ، وصار يُعرف بهذه الشخصية التي صارت هويته ودلالة عليه ، لأن الذي يميز الإنسان عن الآخر هو الشخصية ، لا الجسم ، ومات زيد من خلال مفارقة نفسه لجسمه ، والجسم كما هو مشاهد يرجع إلى أصله تراب وماء ، أما النفس فهي كائنة سرمدية ، فإن قلنا إن النفس يتم تفريغها من المفاهيم ، وإرجاعها إلى فطرتها ، نكون قد محونا شخصية زيد ، ومثل ذلك كمثل تشكيل آلة من عدة مواد ، حيث صارت آلة لها وظيفة واسم يميزها عن غيرها ، فإن قمنا بعملية تفكيك الآلة ، وإرجاع كل مادة إلى أصلها ، نكون قد محونا الآلة من وجودها الوظيفي ، ورجعت إلى أصلها مادة خام ، فإن قمنا بصنع آلة جديدة مختلفة في الوظيفة من ذات المواد ، لا نحصل على الآلة القديمة أبداً ، ومثل ذلك كمثل نظام ويندوز، فالأصل في نسخه الكثيرة ، التطابق في المضمون من حيث المحور الثابت ، أما عندما يصل إلى المستخدم يقوم بتعبئته بأوامر وبيانات جديدة خاصة به في المحور المتغير ، حسب حاجته ، وبذلك أعطى لنظام ويندوز هوية متعلقة بالمعلومات الجديدة ، فإذا قام بتفريغه ( فرمته ) يكون قد محى هوية النظام وخصوصيته ، وأرجعه إلى ما كان عليه أصلاً ، نسخة مثل غيره تماماً ، ينتظر من يشكله بشخصية جديدة .
وهكذا نفس الإنسان قبل دخولها في جسمه ، وتشكيلها على أرض الواقع الاجتماعي والبيئي ، فافتراض مسألة تفريغ نفس الإنسان ، ودخولها مرة ثانية في جسم جديد ، يترتب على ذلك ذهاب (فرمته) نفس زيد إلى الأبد ، وظهور نفس أخرى لا علاقة لها بزيد أبداً ، ما يعني أن كل حالة تقمص للنفس في حال حصولها تقوم على أنقاض الشخصية السابقة ، ولا يستطيعون نفي تفريغ النفس من مفاهيمها ، وما اكتسبته من رواسب أثناء حياتها ، لأن ذلك ينفي الحكمة من التقمص أصلاً ، ويُعيد الإنسان نفسه ، وإذا أصروا على التقمص مع إثبات تفريغ النفس ، يلزم من قولهم وجود حياة مستقلة لكل مرحلة على حدة ، وتكون بالنسبة إلى صاحبها الفرصة الوحيدة ، وفي النهاية سوف تفنى كل هذه الفرص بشخصياتها ، وبالتالي يكون الوجود هو لآخر شخصية تشكلت ، وإذا حصل ذلك فيعني أن صاحب الشخصية الأخيرة قد عاش مرة واحدة فقط لا غير ، فتأمل يا صاحبي !.
إدريس : يخطر في ذهني مسألة اختلاف عدد الولادات عن عدد الوفيات في المجتمع الإنساني ، إذ لو كان مفهوم التقمص في الواقع صواباً لتساوت حالة الولادات مع حالة الوفيات ، وبالتالي ثبت عدد سكان الأرض لا يزيد أو ينقص .
إبراهيم : هذه حالة من حالات التقمص ، فهم يقولون بالتقمص لثلاثة مرات فقط ، وبالتالي لابد من الموت الذي لا رجعة فيه للنفس ، وعندئذ يتم عملية النقص لعدد سكان الأرض ضرورة ، ويفسرون الزيادة بسبب خلق نفوس جديدة ، بجانب التقمص للنفوس القديمة .
وهذا الافتراض باطل في واقع الحال ، انظر على سبيل المثال لمجتمع توفي فيه ألف إنسان ، وولد فيه عشرة آلاف ، فالألف الذين ماتوا سوف يظهرون في شكل ولادات جديدة في مكان آخر ، والعشرة آلاف الذين وُلدوا ينبغي أن يكون جزء منهم – ولنفترض النصف – هو وفيات في مكان آخر، ظهرت في هذا المجتمع من جديد .
ولنقم بعملية التعويض ، حيث أن الألف الذين ماتوا ، هم الذين وُلدوا في مكان آخر ، فتصير النتيجة صفر ،لا زيادة ولا نقصان ، وإذا افترضنا أن نصف العشرة آلاف ؛ حالات ولادة لناس قد ماتوا في مكان آخر ، نصل إلى أن النفوس الجديدة هي خمسة آلاف فقط ، وبهذا المثال نصل إلى احتمالين :
الأول : ينبغي أن يكون عدد زيادة سكان الأرض بطيء جداً ، والواقع غير ذلك .
الثاني : ينبغي أن يكون عدد زيادة سكان الأرض أضعاف مضاعفة عن العدد الحالي ، وذلك لوجود التقمص ، والخلق الجديد للنفوس .
وحسب مفهوم التقمص يقتضي صواب الاحتمال الثاني ، ولتقريب المثل ، انظر إلى مجتمع ما ، وقم بوضع حالات أفراده في جدول يغطي كل حالات التقمص بفرصه الثلاثة ، والخلق الجديد للنفوس .
1- مجموعة تعيش في الفرصة الأولى .
2- مجموعة تعيش في الفرصة الثانية .
3- مجموعة تعيش في الفرصة الثالثة .
4- مجموعة ينتقلون من فرصة إلى أخرى ( ولادات تقمصية ).
5- مجموعة خُلقت حديثاً ( ولادات خَلقية ) .
6- مجموعة أنهت فرصتها الثالثة والأخيرة ( الوفاة دون رجعة )
فنصل إلى أن عدد تكاثر سكان الأرض ينبغي أن يكون مهولاً بصورة كبيرة جداً مثل النمل ، والواقع يشهد بخلاف ذلك !.
إدريس : إن مفهوم التقمص عقيدة يحملها عدد كبير من سكان الأرض ، وفيهم فلاسفة كبار ، فماذا تفسر ذلك ؟
إبراهيم : إن الفكرة تستمد صوابها من برهانها ، وليس من صاحبها ، أو من كثرة القائلين بها ، أو مكانتهم الفلسفية ، أو العلمية .
إدريس : هل أفهم من كلامك أنهم على ضلال ؟
إبراهيم : نعم ؛ إنهم على ضلال ، وهذا لا يعني الإجرام ، أو العداوة ، أو الكره والحقد ، وإنما يعني أنهم وقعوا في الوهم بسبب طريقة تفكيرهم ومنهجهم التي انتفى عنها صفة العلمية والواقعية ، ولا تنس أنهم في النهاية يؤمنون باليوم الآخر الذي هو أحد محاور الإيمان ، لذا ؛ أنا أعد أن إثبات مفهوم التقمص المؤقت ، أو نفيه ، سواء في النتيجة ، لأن كل إنسان يمكن أن يكون يمثل الحالة الأخيرة للتقمص ، وبالتالي فهو مسؤول عن شخصيته من حيث المفاهيم والسلوك .
إدريس : ماذا تفسر سبب هذه الظواهر التي يتداولونها لإثبات التقمص ؟
إبراهيم : عظيم ، لقد ذكرت كلمة ( تفسير ) في سؤالك ، وهي تدل على وجود انفعال وتفاعل الإنسان مع الحدث ، ومن هذا الوجه ينبغي أن تفرق بين حصول الحدث ، وتفسيره ، فالتفسير هو عملية تتم في الذهن بناء على معطيات معينة ، قد تكون داخلية من النفس ، وقد تكون خارجية من الواقع ، فإن كانت معطيات نفسية داخلية ، فهي إسقاط ما في النفس على الحدث ، وإن كانت خارجية مبنية على دراسة ، وتحليل وتركيب ، واستنتاج من الواقع ، فهي تفسير علمي مرتبط بالواقع.
والسؤال الذي يفرض ذاته هو ، هل مفهوم التقمص تفسير علمي للأحداث ، أو تفسير نفسي داخلي للأحداث ؟
بمعنى آخر ، إن من قال بالتقمص بناء على هذه القصص انطلق من نفي معرفة سبب حصول هذه الأحداث ، فقال : إذاً ؛ لابد من إثبات مفهوم التقمص ، فهو اعتمد على نفي العلم لإثبات المفهوم ، وهذه طريقة ضالة في تفسير الأحداث ، لأن نفي العلم عن كيفية حصول حدث ، لا يصلح أن يكون برهاناً لإثبات شيء ، فالعلم ؛ دراسة ، واكتشاف السبب ، والقانون الذي يحكم الشيء ، فإن لم تستطع الوصول إلى معرفة أسباب حصول الشيء ، ما ينبغي أن تهرب من الدراسة والعلم إلى تفاسير وهمية ، بل ؛ وتطالب الآخرين بنقضها ، وإثبات بطلانها !، فيصير مثلك مثل من سأل : من قام ببناء هذا السد على النهر ؟ فرد عليه آخر قائلاً: أنا الذي بنيته ، فأجابه السائل : ما برهانك على ذلك ؟ فرد عليه : هل أنت بنيت السد ؟ فقال السائل : لا ؛ لم أبن السد ، فأجابه : إذاً ؛ أنا الذي بنيته !.
وهذه الأحداث والقصص من هذا القبيل ، فعندما لم يعلموا على وجه الحقيقة سبب كيف حصلت في الواقع ، قالوا : عدم علمنا بالسبب ؛ برهان على مفهوم التقمص ، وإذا لم تصدق ذلك ، فأخبرنا عن سبب حصول الأحداث !!؟
إدريس : فعلاً إنها مناورة كلامية ، ومغالطة في التحليل والتركيب والاستنتاج !.
إبراهيم : إن معظم الضلال في الأرض حصل من طريقة تفكير وهمية ، ومقلوبة النتائج ، مثل مقولة : النفي برهان على الإثبات ، والصواب هو نفي النفي إثبات ، ونفي العلم عن شيء لا يصلح استخدامه برهان على إثبات شيء آخر .
إدريس : لقد وصلت بفضل من الله ، ثم بفضلك إلى ترتيب طريقة التفكير والتحليل ،وعرفت أن مفهوم التقمص ؛ وهم في وهم ، ولكن أريد أدرس وإياك بعض من النصوص القرآنية التي يستدل بها من يقول بالتقمص .
إبراهيم : إءتني بأهم النصوص ، وأصرحها في الدلالة على مفهوم التقمص ؟
إدريس : بعد أن قرأت النصوص التي يستدلون بها ، وجدت نصين هما العمدة في بناء مفهوم التقمص عندهم ، وهما :
1 - (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)
(البقرة 28 )
2 - ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) (غافر11).
إبراهيم : إن فهم النص القرآني لا يمكن أن يحصل من دلالة مفرداته فقط ، أو فصله من المنظومة القرآنية ودراسته وحده ، بل لابد من فهم المفردات لساناً ، وفهم النص وفق المنظومة الخاصة به ، وإسقاط ذلك على الواقع ، لأنه محل الخطاب ، والنص المعني بالدراسة ينتمي إلى منظومة الموت والحياة .
كلمة الموت ؛ تدل على فقدان الفاعلية ونفي إنتاج الطاقة ذاتياً ، وتشمل الموت المادي ، والموت الروحي ، اقرأ قوله تعالى : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ..) ( الأنعام122) .
كلمة الحياة ؛ تدل على الفاعلية والإنتاج للطاقة بصورة ذاتية ،وتشمل الحياة المادية ، والحياة الروحية .
وبناء على هذا التعريف صُنفت الكائنات الحية ، نحو ، الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والكائنات الميتة نحو، التراب ، والأخشاب ، والأحجار.
والنص القرآني الأول يثبت أن حالة الموت هي الأولى والسابقة عن الحياة ، اقرأ قوله تعالى : (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنها يأكلون ) ( يس 33 ). فالأرض بعناصرها هي مادة ميتة ، وفعل الحياة لها كان من خلال نزول الماء عليها فاهتزت وربت ، وأنتجت الزرع ، وصارت فاعلة ، وضمت في رحمها الحياة الفاعلة المتمثلة بالنبات ، وهذه صورة للحياة المادية .
والإنسان في أصله من تراب وماء ، وهما كائنات ميتة ، هذه صورة للموت ، والأخرى هي وجود البشر دون وعي وإدراك ، وهذا تفسير كلمة ( وكنتم أمواتاً ) وعملية الإحياء تمت بصورتيها مع فاصل زمني بينهما ، وهذا تفسير كلمة
( فأحياكم ) ، انظر إلى حرف ( ف ) الذي يدل على العطف والتعاقب ، وعملية جعل تكاثر الجنس الإنساني من ماء مهين فيما بعد ؛ لا ينفي أصل مادته الميتة التي خُلق منها ، انظر إلى أصل تكوين النطفة في الجسم كيف تحصل من كائنات ميتة بداية ، ويتابع النص ( ثم يميتكم ) انظر إلى حرف ( ثم ) الذي يدل على عطف مع التراخي في الزمن ، وهذا دليل على أن مرحلة الموت هذه تأتي بعد فترة زمنية للحياة يعيشها الإنسان في دار الابتلاء ، وهذا دلالة فعل المضارع ( يميتكم ) ويتابع النص ( ثم يحييكم ) أيضاً أتى حرف العطف ( ثم ) ليدل على أن مرحلة الموت السابقة سوف يمر عليها زمن ( يحييكم ) ،ويتابع النص ( ثم إليه ترجعون ) ليدل على أن عملية الرجوع إلى الله –عز وجل – سوف تكون بعد فترة زمنية من الإحياء .
خلاصة تفسير النص
1-كنتم أمواتاً ----- التراب والماء ، ووجودكم كائنات غير عاقلة .
2-فأحياكم ----- بدء الحياة للأجسام ، والنفخ فيه من الروح (الوعي ) .
3-ثم يميتكم ---- انتهاء حياة الإنسان في الدنيا بعد فترة من الحياة.
4-ثم يحييكم ---- عملية البعث والحياة في الآخرة بعد فترة من الموت
5-ثم إليه ترجعون --.-- بدء عملية الحساب بعد فترة من الإحياء.
اقرأ قوله تعالى : (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ) الحج 66) ، بدأ الله بفعل الحياة أولاً ، وهذا يقتضي ضمناً أننا كنا أمواتاً ، ثم عطف الموت على هذه الحياة بحرف ( ثم ) وعطف الحياة على الموت بحرف ( ثم ) ،ليصير النص يحدد ثلاث مراحل :
1-أحياكم ------ من بعد أن كنا مادة ميتة ( تراب وماء ) .
2-ثم يميتكم ---- من بعد حياتنا في الدنيا .
3-ثم يحييكم ---من بعد الموت في الدنيا ، وذلك البعث والحياة في الآخرة .
اقرأ قوله تعالى : (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) (الأنعام 95 ) .
1-يخرج الحي من الميت --- نمو الكائنات الحية ، والزرع من الأرض الميتة .
2-ومخرج الميت من الحي --- مثل الصوف والوبر والحليب والأخشاب.
إدريس : بناء على هذا التفسير لا يوجد أي دلالة لمفهوم التقمص في النص لا من قريب ، ولا من بعيد .
إبراهيم : نعم ؛ إنه كذلك ، فمفهوم التقمص قد تم إسقاطه على النص إسقاطاً بصورة تعسفية ، خالية من المنطق والدراسة الموضوعية ، انظر مثلاً لو جاريناهم في مفهومهم كيف يمكن أن نفهم النص ، أول جملة ( وكنتم أمواتاً ) أقول : الموت للشيء لابد له من أن يكون حياً أولاً ، وبالتالي مرحلة الموت الأولى يسبقها مرحلة حياة ضمناً قد سكت النص عنها ، وإذا كان الأمر كذلك ، أقول : إن مرحلة الحياة أيضاً لابد أن يسبقها مرحلة الموت ، وهكذا دواليك بصورة تسلسلية ، ومن المعلوم أن فرضية التسلسل للخلق باطلة ، ما يدل على أن جملة (وكنتم أمواتاً ) غير معنية بالصورة الإنسانية الحالية ، وإنما معنية بأصل خلق الإنسان ، الذي هو تراب وماء ضرورة ، وأتت جملة ( فأحياكم ) لتدل على بدء نشوء الحياة بأبسط صورها ، إلى أن وصلت إلى الصورة التي ارتضاها الخالق للإنسان .
إدريس : لا أريد أن أتعمق أكثر في الموضوع ، فالذي يهمني هو بطلان مفهوم التقمص ، لذا ؛ تابع تفسير النص القرآني الثاني ؟
إبراهيم : إن الأفكار مترابطة مع بعضها ، وتشد بعضها بعضاً ، ويصعب أحياناً أن تقف عند جزء منها ، ومع ذلك سأتابع تفسير النص الآخر .
2- ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) (غافر11.)
لاحظ استخدام النص لكلم (اثنتين) وهي غير كلمة ( مرتين ) ، فعلى ماذا تدل كل منهما ؟
مرتين : كلمة تدل على تكرار الحدث ، مع وجود فاصل زمني بينهما .
اقرأ قوله تعالى : [ الطلاق مرتان ] (البقرة 229)
وقوله [ ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً ] ( الأحزاب 31)
وقوله : [ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ...] (التوبة 126)
اثنتين : كلمة تدل على تكرار الحدث ، بصورة متصلة .
اقرأ قوله تعالى : [ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثُلثا ما ترك .] (النساء 11)
وقوله [ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ...] (النساء 176)
إذاً ، النص - ابتداءً - لا يتكلم عن مراحل الموت أو الحياة بصورة منفصلة عن بعضهما ، بل يتكلم عن مرحلة موتٍ أو حياة بصورتين ملتصقتين ، فما هما هاتان الصورتان ؟
بداية ، ينبغي أن نستحضر المفهوم الثابت لدينا ، المتعلق بالموت والحياة بصورتيه المادية والروحية ، الذي هو دلالة النص القرآني (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) (البقرة 28.)
1-( وكنتم أمواتاً) أي مواد ميتة ، التي هي التراب والماء، اقرأ قوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنها يأكلون ) ( يس 33 ).
2- (فأحياكم) بدء عملية الخلق للبشر،ثم نفخ النفس فيه من الروح ، ليصير عنده حياة الجسم ، وحياة الروح من خلال الوعي ، والإدراك ، والالتزام بالروح الكونية ، والشرعية ، وهاتان هما صورتي الحياة ( المادية والروحية ).
3- (ثم يميتكم) موت الإنسان بخروج نفسه من جسمه ، ويترتب على ذلك توقف فاعلية نفسه
إذاً ، لا يمكن للإنسان أن يموت اثنتين بصورة الموت الجسمي ، ما يؤكد - ضرورةً - أن دلالة (أمتنا اثنتين) متعلقة بالجسم ؛ وبشيء آخر غيره ، في وقت واحد ، ولدى الدراسة ، نجد أن صورة الموت الثانية ، هي موت روح الإنسان ، وكلمة الروح تدل على أمر الرب ، وفي الواقع ، هي مجموعة السنن والقوانين التي تحكم الوجود كله ( الروح الكونية ) ؛ وتدل على أمر الرب الشرعي ؛ الذي تمثل برسالته للناس ، اقرأ قوله تعالى: ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) (الشّورى 52.) ، ليصيرا روحاً واحدة منسجمتان مع بعضهما بعضاً - الروح الكونية ، والروح الشرعية - ، ويجب على الإنسان أن يلتزم بهما معاً ، ويتحرك في الكون وفق روحه ( سنن وقوانين ) ، ويتحرك -اجتماعياً - وفق روح المجتمع ، المنضبط بروح الشرع الإلهي ، فيصير هذا الإنسان حياًّ في جسمه ، وحياًّ في روحه ، أمّا الذي يكفر ، ويُفسد في الكون ، ويكفر بشرع الله ؛ يصير حياًّ في جسمه ، وميتاً في روحه ، التي يعقبها موت جسمه نهاية بصورة متصلة ، وهذه هي دلالة ( أمتنا اثنتين ).
أما دلالة ( أحييتنا اثنتين ) ، فالحياة الأولى للجسم ، وتكون من خلال البعث والحياة في الآخرة ، والثانية الملتصقة بها، هي حياة الروح عند الكفار، لمّا يدركون الحقيقة بأم أعينهم ، ويتطهرون من شركهم وأوهامهم بواسطة النار، لذلك قالوا : ) فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل )
أمّا المؤمنون فلا يذوقون إلا الموتة الأولى ؛ التي هي الموت الجسمي بعد حياتهم في الدنيا ، ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ] (الدخان 44)، فالمؤمنون يحيون في الدنيا اثنتين؛ حياة الجسم ، وحياة الروح ( فاعلية وإيمان وانسجام مع الكون)، ويموتون موتة واحدة ( موت الجسم )، ليحيون بعدها في الآخرة اثنتين؛ حياة الجسم ، وحياة الروح ( فكراً وتأملاً وسعادة وسروراً )، اقرأ قوله تعالى :
) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ) ( طه 74 )، فالكافر لا يموت في النار من الناحية الجسمية، فهو حي ، وليس هو حياً من الناحية النفسية ، فهو الميت الحي ، وما أكثرهم في الحياة الدنيا .
فيكون المؤمنون قد عاشوا حياتين فاعلتين سعيدتين ، في الدّنيا ، من خلال الالتزام بالرّوح التي أنزلها الله (القرآن) ، والروح الكونية، وفي الآخرة , من خلال فوزهم بالجنة , ورضوان الله عليهم .
قال تعالى أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) (الأنعام 122.) ، وقال: ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) (الشّورى 52.)
وقال: ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النّحل 97.)
إدريس : كفى ؛ لقد امتلأت فكراً ، ولم يعد متسع لغير ذلك ، سوف أفكر وأدرس ما عرضت علي من أفكار، وأدلة ، بصورة موضوعية ، رغم ظني أني قد وصلت إلى أن النصين القرآنيين ؛ لا يدلان على مفهوم التقمص أبداً .
إبراهيم : هذا من دواعي سروري ، والفضل أولاً ، وآخراً لله – عز وجل – على توفيقه .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى