هل الأيديولوجية مفيدة ، حتى وان لم تكن صحيحة ؟
هل الأيديولوجية مفيدة ، حتى وان لم تكن صحيحة ؟
هل الأيديولوجية مفيدة ، حتى وان لم تكن صحيحة ؟
السالب مضروبا بالسالب يصبح موجبا
هذه قاعدة رياضياتية بسيطة حيث (- 2) * (- 3) = (+6) و لما كانت الحياة تبدو لكثير من الناس أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة لأسباب كثيرة معروفة ، سأذكرها لاحقا ؛ و بما أن جميع الأيديولوجيات خاطئة و ليست حقيقية ( بنظر كثير من الناس ) ، فان الحياة المأدلجة هي حقيقية بمعنى أن اعتناق فكر أيديولوجي في هذه الحياة هو أمر ايجابي بشكل عام ، طبعا ليس بشكل مطلق .
كثير من الناس ماديون بطبعهم ( و منهم الكثير من المتدينين ، فالروحانية شيء و التدين الطقسي شيء آخر تماما) و مثل هؤلاء الناس لا تهمهم قضايا الأيديولوجية ، فهم أشخاص عمليون يركزون تفكيرهم على العمل والتقدم في الحياة وفي الغالب لا يملكون وقتا للتفكير بغير ذلك ، و حتى هم لو فكروا فإنما يفكرون بطريقة عملية و بسيطة و ما يهمهم من أي أيديولوجية هو ما تقدمه لهم من منافع مادية و معنوية ، و قد تصادف أنهم يتهمون أحيانا من الفريق الآخر - الفريق المثالي - بأنهم يفكرون بشكل سطحي و أنا لا أعتقد أن هذا القول دقيق ، و لكن أظن أن المثاليين يفكرون بشكل أعمق ، و هذه ليست ميزة بالضرورة فهناك قاعدة تكاد تكون صحيحة دائما ؛إن لم تكن كذلك ؛ و هي تقول أن خير الأمور أوسطها و يمكن التعبير عنها بأن كل التوابع في هذا العالم تتبع منحى دائري بحيث أن التقدم على المسار بعد نقطة معينة يصبح مكافئا للتراجع و بالنهاية تنطبق نقطة النهاية على نقطة البداية ، كما هو حال الدرجتين 0 و 360 في الدائرة .
المثاليون سواء كانوا يعتنقون أيديولوجية مادية أو ما ورائية يفكرون بطريقة مختلفة ، ومن المهم أن نلاحظ أن الماديين قد يكونون متدينين( مؤمنين) و قد يكونون ملحدين و نفس الشيء ينطبق على المثاليون، فالمسألة لا علاقة لها بالتدين ، إنما هي طريقة تفكير بل هي ليست بالمعنى الدقيق طريقة تفكير بقدر ما هي تركيب نفسي سيكولوجي عميق يتحكم بتفكير الإنسان و عاطفته معا .
المثاليون الذين يعتنقون أيديولوجية مادية كالماركسيين هم أشخاص مثاليون في الواقع و يصح تجاوزا أن نصفهم بأنهم متدينون ، حيث لا يستطيع المثالي التخلي عن أسس تحكم نظرته إلى هذا العالم ، إن المثاليون أشخاص مقتنعون : بأن هذا العالم مضطرب و لكن يمكن ، بل يجب أن يصبح رائعا و مثاليا في يوم من الأيام ، إن الفيلسوف الألماني العظيم فريدريك نيتشه هو مثال للملحد المثالي الذي عجز عن التوفيق بين إلحاده ونظرته المثالية للعالم فانتهى به الأمر إلى الجنون ، و في نفس الوقت فالماديون المؤمنون لا يهمهم من الدين إلا تحقيق مصالحهم ، و هذا لا يعني أبدا أنهم منافقون ، فإيمانهم إنما يعني أنهم هكذا يفهمون الدين ، خذ مثلا المسلم الملتزم الثري ، ذو النفوذ، المتزوج من عدة نساء بعضهن يصغرنه بأكثر من ربع قرن : يؤكد أن الشرع أحل له أن يتزوج بأكثر من واحدة و إن فارق السن الكبير بين الرجل و المرأة أمر مقبول ، بنفس الحين يحمد الله على أنه يؤدي فرض ماله من الزكاة البالغة 2.5% من المال النقدي الذي يحتفظ به نقدا لمدة عام كامل أو أكثر ، و ليس عليه في مركوبه (أو مركباته ) و داره (أو قصوره) و صنعته (أو شركاته ) من زكاة ، كما أفتى له فقهاء العصور الغابرة و الحاضرة . ينتهز فرصة شهر الصيام ليخفف العبء الذي ترزح تحته معدته طوال العام ، و هو قادر على تغيير برنامج حياته في هذا الشهر كما يحلو له بحيث لا يشعر بأي مشقة للصيام بل هو يمر خلال مهرجان من التغيير و الولائم . أداء الصلاة في أوقاتها فرصة للتأمل ، فليس لديه رب عمل ربما يتضايق من ذلك و لا عمل ملح إذا تأخر انجازه ربما يتسبب له بمشاكل. و حتى صلاة الفجر ليست أمرا مزعجا له فهو ينام متى شاء و يستيقظ متى شاء ، بعكس العامل الكادح المرهق كدا و تعبا طوال النهار و آناء الليل . هذا الرجل ليس منافقا ألبته و هو بنفس الوقت لا يملك أي حس ديني فعلي ، بمعنى ذلك الشعور العميق المزلزل بالمقدس ، و لا يهمه ذلك . هو يعلم أن هذا العالم ليس جيدا و لا يمكن أن يصبح كذلك و لكنه لا يهتم لذلك مادام هو بخير ، أو هو يظن أن العالم بأتم حال مستشعرا العالم من خلال نفسه ، فهو يظن أن الدنيا بخير لأنه هو بخير .
لا بد من الإشارة إلى أن الشخص نفسه قد يتقلب من كونه مادي إلى كونه مثالي مرات عديدة في حياته ، و كذلك يمكن له أن يكون خليطا غير صافٍ ، بل هذا هو الغالب ، و لكن هذا لا ينفي أن معظم الناس يكونون معظم حياتهم في جانب من الجانبين بدرجة كبيرة (بمعنى أننا نصف شخص بأنه مادي عندما يشعر بقوة شعورا ماديا معظم حياته و بالتالي فالمادي النموذجي هو شخص يسيطر عليه معظم حياته شعورا ماديا قويا ، الكثير من الناس يبدون صفات مختلطة لدرجة تجعل من الصعب تصنيفهم ) و نفس القول هنا ينطبق على التفاؤل و التشاؤم اللذين سيذكران لاحقا .
و هنا أجد انه من المهم التطرق لمسألة التصنيف في المجتمعات ، حيث يُنظر إليها في كثير من الأحيان على أنها عملية حاسمة ، بينما هي ليست كلك في واقع الأمر ، و أسوق المثال الآتي لشرح هذه النقطة : عندما نقول أن المعادن (المواد بشكل عام ) تتقلص بالبرودة ، فإننا نقصد جميع المواد 100% منها ، و يصادف أن نجد استثناء و حيد هو حالة الماء الذي يتمدد بالبرودة تحت درجة +4 مئوية . و لكن عندما نصف عقار ما على أنه فعال لعلاج مرض ما فنحن عادة نتوقع أن هناك نسبة لا بأس بها (قد تصل إلى 10% أو تزيد ) لا تستجيب لهذا الدواء، بل هناك نسبة من الناس لا تتحمل الدواء مما يعني أنه يلحق بها ضرر و ليس له فائدة. و هكذا يتضح أن الحتمية تنخفض كلما كانت الجملة أكثر تعقيدا و ليست حتمية القوانين التي تبدو لنا كذلك (حتمية ) ، إلا نتيجة لدراسة حالات خاصة و معزولة و بالتالي تتصف الحتمية بصفتين(أقصد الحتمية العلمية) : الأولى أنها تقدم منفعة مادية حتمية ، الثانية أنها لا تملك حقيقة حتمية ، و هكذا يتضح أن قيمة الحتمية آتية من المنفعة الحتمية التي تولدها و ليس عن حتميتها الحقيقية أو الفلسفية ، و لذلك تتربع الفيزياء على عرش العلوم لأنها الفرع من العلوم الذي تعطي قوانينه حتمية (نفعية ) بنسبة تكاد تصل إلى 100% ، بل هي في كثير من مجالاتها تصل إلى ال 100% ،و هذا بحث آخر .
عند دراسة القوانين في المجتمعات البشرية فإننا نصادف و ضعا أشد تعقيدا بكثير من حالة تمدد المعادن أو تأثير الأدوية ، فمثلا عندما نصف شخص ما بأنه عملي معتمدين على تصنيف يصنف شخصيات الناس إلى ستة أقسام : (ا ،ب،ج،د،ه، و ) اعتمادا على ستة صفات تتوفر في الأشخاص ، فان الأمر لا يكون بهذه الدقة فشخص ما يحوي الصفة(ج) بنسبة 27% و الصفة (د) بنسبة 20% و الصفتين (ا و ب) بنسبة 15% لكل منهما و الصفة( و) بنسبة 14 % و الصفة (ه) بنسبة 9%يصنف على أنه شخص من الطراز ج (عملي مثلا)، مع أنها تعكس فقط 27% من صفاته في المجال المدروس من شخصيته.
وحتى هذا المثال ، مثال مبسط ، إذ تحدد الصفات الشخصية والاجتماعية للبشر عوامل كثيرة بدرجات شديدة التفاوت و بالتالي فان أي تصنيف هنا هو تقريبي للغاية مما يفسر قلة دقة دراسات علم الاجتماع مقارنة بغيرها من الدراسات العلمية . والمشكلة أنه يستحيل إجراء أي دراسة دون اللجوء إلى التصنيف الذي يتطلب الاختزال ، بمعنى التركيز على العوامل التي تبدو أكثر أهمية و إهمال التي تبدو أقل أهمية ، كإهمال مقاومة الهواء أو الاحتكاك في بعض الدراسات الفيزيائية . نحن نعرف الآن من نسبية أينشتاين أن الكتلة ليست مقدارا ثابتا و إنما تتعلق بالسرعة ، و لكن جميع دراسات الميكانيك العادي (النيوتني ) تعتبر الكتلة ثابتة و هذا صحيح لأنه في السرعات البعيدة عن سرعة الضوء يكون تغير الكتلة تافها للغاية بحيث ليس فقط لا يؤثر على حساباتنا بل هو يستحيل قياسه . من هنا فان الفيزياء تتعامل مع مواضيع سهلة الاختزال و بالتالي تعطينا نتائج دقيقة للغاية، و أنا أعتقد أن المشاكل التي تواجهها الفيزياء على صعيد دراسة الكون و الأجسام الدقيقة (الماكرو و الميكرو) تأتي من هذه النقطة تماما حيث تصبح الجمل شديدة التعقيد و بالتالي فان دراستها التي تحتاج تصنيفها و الذي لا يمكن القيام به (تصنيفها ) دون اختزالها ، تؤدي إلى ضياع الكثير من الصفات الهامة و المؤثرة في الدراسة و بالتالي نحصل على نتائج غير شافية ، و الوضع نفسه ينطبق على علم الاجتماع و بشكل أقل على الطب .
و بالعودة إلى موضوعنا ، فان تركيزي هنا هو على المثاليين و بالأخص الذين يعتنقون أيديولوجيات ما ورائية .
في البداية هل الحياة في هذا العالم مجرد وهم ؟ أو هل هي على الأقل أقرب للوهم منها للحقيقة ؟
الجواب بالنسبة للكثيرين : نعم ، فلماذا ؟
و جودنا في هذه الحياة سريع التغير فمن عمر افتراضي يبلغ سبعين سنة نتحكم بثواني معدودة فكل الزمن الذي انقضى حتى لحظة وجودنا الحاضر أصبح تماما خارج عن سيطرتنا و العالم بأسره عاجز عن تغيير إي تفصيل فيه مهما صغر ، دعنا نفكر في المسألة الآتية : ما أن تفعل شيء ما بطريقة خاطئة لمرة واحدة حتى تلزمك نتائجه طوال حياتك و تصبح عاجز تماما عن فعل أي شيء حيال ذلك ، حتى لو لم تقصد الخطأ ، تخيل جنديا يفاجأ بزول ( شخص غير واضح المعالم ) في الليل يتقدم نحوه ، و لا يخطر بباله سوى خاطر وحيد هو أن هذا عدو ، و في اللحظة التي يضغط إصبعه الزناد يتعرف على شخص صديقه أو رئيسه . من غير الممكن لهذا الجندي و لو استعان بقوى العالم جميعها إعادة الزمن للحظات و بالتالي هو يتحمل النتائج المادية و المعنوية و النفسية لتصرفه هذا طوال حياته .
هذا بالنسبة للماضي أما بالنسبة للمستقبل فان الإنسان عاجز تماما عن أن يضمن فيه أي شيء ، هو غير قادر على أن يكون متأكدا من أي تفصيل ، نام الناس إحدى ليالي صيف عام 1939 و أفاقوا على عالم فقد عقله و لم تنتهي حفلة الجنون المسماة بالحرب العالمية الثانية إلا وقد تغير كل شيء ، و بالنسبة لشاب من إحدى الدول المشاركة في هذه الحرب - و لتكن مثلا الولايات المتحدة الأميركية كونها بدت بعيدة و آمنة في بداية الحرب – هذا الشاب الذي كان لديه كما هائلا من الأحلام في ربيع عام 1939 ، من الممكن أن تكون قد ذهبت أحلامه أدراج الرياح كما حدث للكثير من الشباب ، هذا إن لم تكن حياته نفسها قد ضاعت ، و إذا فكرت بشاب مماثل و لكن من الاتحاد السوفييتي و الذي هو الآخر كان يبدو منيعا و بعيدا عن الحرب في البداية لكان احتمال ضياع أحلام شاب ما أو حياته أكبر بكثير ، إذا ما تذكرنا أن خمسة و عشرون مليون سوفيتيا ماتوا في هذه الحرب ( أكثر من عُشر السكان) ، و الأدهى من ذلك أنه لا الأميركي العادي و لا السوفييتي العادي له أدنى ذنب في ما حدث.
أما العامل الحاسم في كون العالم وهماً : فهو الموت ، فإذا كان العاملين السابقين ظرفيين بمعنى أنك إذا كنت محظوظا يمكنك أن لا تتعرض لحوادث مماثلة ، فان هذا العامل قطعي و لا يشك فيه أحد . و الشخص المادي قادر إلى حد بعيد على تجاهل الموت ، فهو لا يجد وقتا ليفكر في أي شيء ، و إذا وجده فلديه كم مخيف من المشاغل و المشاريع و المشاكل العملية التي تحتاج للحل و بالتالي للتفكير في حل لها . و لكن المثالي بطبعه غير قادر على نزع الأفكار الكلية من ذهنه ، لأن همه الرئيسي موجه دائما نحو كيفية جعل العالم الذي يبدو مكانا غير جيد ، كيفية جعله أو تحويله إلى مكان جيد مما يعني رغبة عارمة في التغيير و شعورا مستمرا بالزمن و بالتالي فالحياة و الموت هما ركيزة أساسية لتفكيره .
ما هي قيمة الحياة إذا كانت ستنتهي يوما و كأنها لم تكن ، إذا كان كل حي سيصبح نسيا منسيا حتى من نسله الذي كان سبب وجودهم في هذا العالم ؟ قد لا يراود هذا الشعور الأحداث في صباهم ، و لكن الكهول الذين ينظرون إلى نصف قرن من الزمن أو أكثر يمتد وراءهم و قد انقضى كأنه لحظة مرت و انتهت ، يعرفون هذا الشعور جيداً ، بالطبع من يجد منهم متسعا ليفكر .
من المفيد أـن أذكر هنا أن أحد أهم صفات الحياة الممتلئة بالعمل ، و حياة البداوة و التنقل و المغامرة ، أنها تصرف تفكير الناس بشكل اضطراري لشؤون بقائهم و حياتهم المادية و بالتاي لا تترك لهم مجالا للأفكار الأيديولوجية المعقدة ؛ التي ربما تكون ضارة ، حتى أيديولوجيات هؤلاء الناس إن وّجدت تكون بسيطة . فعندما يُرهق الناس تحت ضغط العمل و يحققون القليل يتجهون إلى تفكير نظري عنفي أو استسلامي ( و ما أقرب الضد من ضده) ، بينما عندما يحيا الناس حياة ترف و فراغ فإنهم يفكرون بشتى أصناف الأفكار ، التي كثير منها مجرد ترف فكري يؤخر و لا يقدم ، و عندما يعيش الناس حياة ممتلئة و منتجة في نفس الوقت يصبحون عملانيين ، و لا بد من الاعتراف أن التنظير الزائد عن الحد يؤدي إلى بلبلة و تشتيت تعيق تحقيق أي هدف ، مرة ثانية تبدو الوسطية كأنها تكاد تكون القيمة الوحيدة الجيدة دائما (أفردت لهذا الموضوع بحثا خاصا ).
و بالعودة إلى موضوعنا ،كم من أجدادنا نعرف ؟ بالنسبة لي فأنا أعرف اسم والد جدي و لا أعرف شيئا عن والدته و بعد ذلك لا أعرف أي شيء عن أسلافي أما بالنسبة لجدتي فأنا حتى لا أعرف اسم أبيها و لا أمها ، لقد ضاعوا في النسيان إلى الأبد كأن لم يأتوا إلى هذا العالم ، و هذا هو مصير بلايين البشر ، أ ليست إذاً هذه الحياة مجرد وهم ؟
إذا كانت الحياة و هم ، فان الأيديولوجية هي بالضبط ذلك الوهم المضاد الذي يحول الحياة (الوهم) إلى حقيقة.
بمعنى أننا إذا سلمنا أن الحياة وهم أو أقرب إلى الوهم (و هذا ما يُسلم به الكثيرون ) و إذا قلنا بأن الأيديولوجية هي أفكار وهمية بمعنى غير واقعية (و هذا ما يقوله أيضا كثير من الناس) ، يمكننا أن نصوغ المسألة بالشكل التالي : الأيديولوجية هي عملية تَوَهُم أن هذه الحياة الوهمية هي شيء حقيقي .
طبعا المسألة تأخذ صياغات أخرى فالمثاليون الماديين (غير الماورائيين) لا يعتقدون أن الحياة وهم و لكنهم يعتقدون أنها يمكن أن تصبح مثالية و هذا الوهم يحتاج إلى أيديولوجية وهمية لجعله حقيقة .
تنطبق قاعدة أن محصلة تفاعل قضيتين أو مسألتين سالبتين هو قضية أو مسألة ايجابية على قضايا كثيرة ، فالاضطهاد الذي هو عملية سلبية يجعل العنف الذي هو عملية سلبية أيضا ، يجعله يبدو عملية ايجابية ، و الحاجة ( العوز) التي هي شيء سلبي ، تحول الكد و التعب و الذي هو الآخر سلبي ، إلى قيمة تبدو ايجابية هي العمل أو الإنتاج ، فالجهد الذي لا يلبي حاجة للإنسان ، سواء كانت هذه الحاجة مادية أو معنوية ، ليس قيمة ايجابية .
من المهم التركيز على عبارة – يبدو – فعند هذه العبارة تتفرع السيكولوجية الإنسانية إلى فرعين ، فرع متفائل ( معظم الماديين) و آخر متشائم ( معظم المثاليين) : الأول إما هو لا يفكر بكل مقدمات هذه القضية و يتعامل فقط مع نتيجتها النهائية على أنها شيء ايجابي و من خلال ذلك ينظر إلى مجمل العالم على أنه ايجابي ، أو هو يعتبر أن محصلة تفاعل السالب مع السالب هو أمر موجب فعلا و ليس فقط يبدو كذلك ، بينما يعتبر المتشائم أن الأمور غير قابلة للتحول في جوهرها و هي تظل سالبة و كل ما في الأمر أنها تبدو ايجابية .
قد يفسر هذا تمسك شريحة كبيرة من الناس بالأيديولوجية رغم التطور العلمي الكبير الذي حققه العلم و الذي لا يدعم ، بل هو يناقض جميع الأيديولوجيات المعروفة ، زد على ذلك أن المجتمعات المأدلجة باعتدال و المحافظة باعتدال أكثر نجاحا من المجتمعات الأكثر تحررا و ليبرالية ، ففي أوربا الشمالية الغربية ( المنطقة التي انطلقت منها الثورة الصناعية و عملية التحديث ) الانكليز أكثر الشعوب محافظة و أنجحهم ، الأمريكيون أكثر الشعوب الغربية محافظة و بنفس الوقت أنجحهم و في أميركا نفسها يُشكل الجنوب الأميركي الأشد محافظة مركز الثقل في اقتصاد و سياسة البلاد ، بالطبع أنا هنا أتحدث عن النجاح المادي الذي يصنع قوة الأمة في النهاية ، و بالطبع فأنا لا أعني مطلقا محافظة من النوع العربي فهذه ليست محافظة بل تخلفا ، و مرة أخرى يمكن القول أن قاعدة أن خير الأمور أوسطها تنطبق هنا.
أنا أعتقد أن الأيديولوجيات كلها بعيدة عن الصواب و بالتالي هي أقرب للوهم ، و كمثل ذلك تبدو الحياة ؛ تبدو أقرب إلى الوهم من الحقيقة ، و بالتالي فان مهمة الأيديولوجية هي صبغ وهم الحياة بلون الحقيقة . يبدو لي أنه لا يمكن إثبات شيء في هذا العالم بشكل قطعي و بالتالي لا يمكن نفيه ، ذلك أن النفي هو إثبات العكس (النقيض) ، و بالتالي فان ترك مطلق الحرية للبشر في أفكارهم و تصرفاتهم لأقصى حد ممكن هو الحل الوحيد المعقول . و حدود هذه الإمكانية تتوقف فقط على تناقض حريات البشر مع بعضهم البعض .
الإنسان العادي البسيط ليس غبيا بل هو في كثير من الأحيان أشد ذكاء منا نحن المثقفين ، و قد تكون هذه إحدى أهم نقاط ضعفنا نحن المثقفين العرب (الغالبية و ليس الكل ) ، لا أزال أذكر ما قالته لي والدة زوجتي السابقة يوما ، و هي امرأة متدينة و ذكية ، لقد قالت لي بعبارات بسيطة ما يمكنني صياغته بكل دقة كالتالي : ليس مهما ما هو صحيح و ما هو خاطئ فلسفيا ، بل المهم كيف تعيش بسعادة في هذا العالم ، في ذلك الوقت لم أهتم لهذا الكلام بل اعتبرته عديم الجدوى ، و بعد نحو خمسة عشر عاما من تلك الواقعة أدركت جدوى كون بلايين البشر يتشبثون بأيديولوجياتهم رغم أنف الفلسفة و العلم .
السالب مضروبا بالسالب يصبح موجبا
هذه قاعدة رياضياتية بسيطة حيث (- 2) * (- 3) = (+6) و لما كانت الحياة تبدو لكثير من الناس أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة لأسباب كثيرة معروفة ، سأذكرها لاحقا ؛ و بما أن جميع الأيديولوجيات خاطئة و ليست حقيقية ( بنظر كثير من الناس ) ، فان الحياة المأدلجة هي حقيقية بمعنى أن اعتناق فكر أيديولوجي في هذه الحياة هو أمر ايجابي بشكل عام ، طبعا ليس بشكل مطلق .
كثير من الناس ماديون بطبعهم ( و منهم الكثير من المتدينين ، فالروحانية شيء و التدين الطقسي شيء آخر تماما) و مثل هؤلاء الناس لا تهمهم قضايا الأيديولوجية ، فهم أشخاص عمليون يركزون تفكيرهم على العمل والتقدم في الحياة وفي الغالب لا يملكون وقتا للتفكير بغير ذلك ، و حتى هم لو فكروا فإنما يفكرون بطريقة عملية و بسيطة و ما يهمهم من أي أيديولوجية هو ما تقدمه لهم من منافع مادية و معنوية ، و قد تصادف أنهم يتهمون أحيانا من الفريق الآخر - الفريق المثالي - بأنهم يفكرون بشكل سطحي و أنا لا أعتقد أن هذا القول دقيق ، و لكن أظن أن المثاليين يفكرون بشكل أعمق ، و هذه ليست ميزة بالضرورة فهناك قاعدة تكاد تكون صحيحة دائما ؛إن لم تكن كذلك ؛ و هي تقول أن خير الأمور أوسطها و يمكن التعبير عنها بأن كل التوابع في هذا العالم تتبع منحى دائري بحيث أن التقدم على المسار بعد نقطة معينة يصبح مكافئا للتراجع و بالنهاية تنطبق نقطة النهاية على نقطة البداية ، كما هو حال الدرجتين 0 و 360 في الدائرة .
المثاليون سواء كانوا يعتنقون أيديولوجية مادية أو ما ورائية يفكرون بطريقة مختلفة ، ومن المهم أن نلاحظ أن الماديين قد يكونون متدينين( مؤمنين) و قد يكونون ملحدين و نفس الشيء ينطبق على المثاليون، فالمسألة لا علاقة لها بالتدين ، إنما هي طريقة تفكير بل هي ليست بالمعنى الدقيق طريقة تفكير بقدر ما هي تركيب نفسي سيكولوجي عميق يتحكم بتفكير الإنسان و عاطفته معا .
المثاليون الذين يعتنقون أيديولوجية مادية كالماركسيين هم أشخاص مثاليون في الواقع و يصح تجاوزا أن نصفهم بأنهم متدينون ، حيث لا يستطيع المثالي التخلي عن أسس تحكم نظرته إلى هذا العالم ، إن المثاليون أشخاص مقتنعون : بأن هذا العالم مضطرب و لكن يمكن ، بل يجب أن يصبح رائعا و مثاليا في يوم من الأيام ، إن الفيلسوف الألماني العظيم فريدريك نيتشه هو مثال للملحد المثالي الذي عجز عن التوفيق بين إلحاده ونظرته المثالية للعالم فانتهى به الأمر إلى الجنون ، و في نفس الوقت فالماديون المؤمنون لا يهمهم من الدين إلا تحقيق مصالحهم ، و هذا لا يعني أبدا أنهم منافقون ، فإيمانهم إنما يعني أنهم هكذا يفهمون الدين ، خذ مثلا المسلم الملتزم الثري ، ذو النفوذ، المتزوج من عدة نساء بعضهن يصغرنه بأكثر من ربع قرن : يؤكد أن الشرع أحل له أن يتزوج بأكثر من واحدة و إن فارق السن الكبير بين الرجل و المرأة أمر مقبول ، بنفس الحين يحمد الله على أنه يؤدي فرض ماله من الزكاة البالغة 2.5% من المال النقدي الذي يحتفظ به نقدا لمدة عام كامل أو أكثر ، و ليس عليه في مركوبه (أو مركباته ) و داره (أو قصوره) و صنعته (أو شركاته ) من زكاة ، كما أفتى له فقهاء العصور الغابرة و الحاضرة . ينتهز فرصة شهر الصيام ليخفف العبء الذي ترزح تحته معدته طوال العام ، و هو قادر على تغيير برنامج حياته في هذا الشهر كما يحلو له بحيث لا يشعر بأي مشقة للصيام بل هو يمر خلال مهرجان من التغيير و الولائم . أداء الصلاة في أوقاتها فرصة للتأمل ، فليس لديه رب عمل ربما يتضايق من ذلك و لا عمل ملح إذا تأخر انجازه ربما يتسبب له بمشاكل. و حتى صلاة الفجر ليست أمرا مزعجا له فهو ينام متى شاء و يستيقظ متى شاء ، بعكس العامل الكادح المرهق كدا و تعبا طوال النهار و آناء الليل . هذا الرجل ليس منافقا ألبته و هو بنفس الوقت لا يملك أي حس ديني فعلي ، بمعنى ذلك الشعور العميق المزلزل بالمقدس ، و لا يهمه ذلك . هو يعلم أن هذا العالم ليس جيدا و لا يمكن أن يصبح كذلك و لكنه لا يهتم لذلك مادام هو بخير ، أو هو يظن أن العالم بأتم حال مستشعرا العالم من خلال نفسه ، فهو يظن أن الدنيا بخير لأنه هو بخير .
لا بد من الإشارة إلى أن الشخص نفسه قد يتقلب من كونه مادي إلى كونه مثالي مرات عديدة في حياته ، و كذلك يمكن له أن يكون خليطا غير صافٍ ، بل هذا هو الغالب ، و لكن هذا لا ينفي أن معظم الناس يكونون معظم حياتهم في جانب من الجانبين بدرجة كبيرة (بمعنى أننا نصف شخص بأنه مادي عندما يشعر بقوة شعورا ماديا معظم حياته و بالتالي فالمادي النموذجي هو شخص يسيطر عليه معظم حياته شعورا ماديا قويا ، الكثير من الناس يبدون صفات مختلطة لدرجة تجعل من الصعب تصنيفهم ) و نفس القول هنا ينطبق على التفاؤل و التشاؤم اللذين سيذكران لاحقا .
و هنا أجد انه من المهم التطرق لمسألة التصنيف في المجتمعات ، حيث يُنظر إليها في كثير من الأحيان على أنها عملية حاسمة ، بينما هي ليست كلك في واقع الأمر ، و أسوق المثال الآتي لشرح هذه النقطة : عندما نقول أن المعادن (المواد بشكل عام ) تتقلص بالبرودة ، فإننا نقصد جميع المواد 100% منها ، و يصادف أن نجد استثناء و حيد هو حالة الماء الذي يتمدد بالبرودة تحت درجة +4 مئوية . و لكن عندما نصف عقار ما على أنه فعال لعلاج مرض ما فنحن عادة نتوقع أن هناك نسبة لا بأس بها (قد تصل إلى 10% أو تزيد ) لا تستجيب لهذا الدواء، بل هناك نسبة من الناس لا تتحمل الدواء مما يعني أنه يلحق بها ضرر و ليس له فائدة. و هكذا يتضح أن الحتمية تنخفض كلما كانت الجملة أكثر تعقيدا و ليست حتمية القوانين التي تبدو لنا كذلك (حتمية ) ، إلا نتيجة لدراسة حالات خاصة و معزولة و بالتالي تتصف الحتمية بصفتين(أقصد الحتمية العلمية) : الأولى أنها تقدم منفعة مادية حتمية ، الثانية أنها لا تملك حقيقة حتمية ، و هكذا يتضح أن قيمة الحتمية آتية من المنفعة الحتمية التي تولدها و ليس عن حتميتها الحقيقية أو الفلسفية ، و لذلك تتربع الفيزياء على عرش العلوم لأنها الفرع من العلوم الذي تعطي قوانينه حتمية (نفعية ) بنسبة تكاد تصل إلى 100% ، بل هي في كثير من مجالاتها تصل إلى ال 100% ،و هذا بحث آخر .
عند دراسة القوانين في المجتمعات البشرية فإننا نصادف و ضعا أشد تعقيدا بكثير من حالة تمدد المعادن أو تأثير الأدوية ، فمثلا عندما نصف شخص ما بأنه عملي معتمدين على تصنيف يصنف شخصيات الناس إلى ستة أقسام : (ا ،ب،ج،د،ه، و ) اعتمادا على ستة صفات تتوفر في الأشخاص ، فان الأمر لا يكون بهذه الدقة فشخص ما يحوي الصفة(ج) بنسبة 27% و الصفة (د) بنسبة 20% و الصفتين (ا و ب) بنسبة 15% لكل منهما و الصفة( و) بنسبة 14 % و الصفة (ه) بنسبة 9%يصنف على أنه شخص من الطراز ج (عملي مثلا)، مع أنها تعكس فقط 27% من صفاته في المجال المدروس من شخصيته.
وحتى هذا المثال ، مثال مبسط ، إذ تحدد الصفات الشخصية والاجتماعية للبشر عوامل كثيرة بدرجات شديدة التفاوت و بالتالي فان أي تصنيف هنا هو تقريبي للغاية مما يفسر قلة دقة دراسات علم الاجتماع مقارنة بغيرها من الدراسات العلمية . والمشكلة أنه يستحيل إجراء أي دراسة دون اللجوء إلى التصنيف الذي يتطلب الاختزال ، بمعنى التركيز على العوامل التي تبدو أكثر أهمية و إهمال التي تبدو أقل أهمية ، كإهمال مقاومة الهواء أو الاحتكاك في بعض الدراسات الفيزيائية . نحن نعرف الآن من نسبية أينشتاين أن الكتلة ليست مقدارا ثابتا و إنما تتعلق بالسرعة ، و لكن جميع دراسات الميكانيك العادي (النيوتني ) تعتبر الكتلة ثابتة و هذا صحيح لأنه في السرعات البعيدة عن سرعة الضوء يكون تغير الكتلة تافها للغاية بحيث ليس فقط لا يؤثر على حساباتنا بل هو يستحيل قياسه . من هنا فان الفيزياء تتعامل مع مواضيع سهلة الاختزال و بالتالي تعطينا نتائج دقيقة للغاية، و أنا أعتقد أن المشاكل التي تواجهها الفيزياء على صعيد دراسة الكون و الأجسام الدقيقة (الماكرو و الميكرو) تأتي من هذه النقطة تماما حيث تصبح الجمل شديدة التعقيد و بالتالي فان دراستها التي تحتاج تصنيفها و الذي لا يمكن القيام به (تصنيفها ) دون اختزالها ، تؤدي إلى ضياع الكثير من الصفات الهامة و المؤثرة في الدراسة و بالتالي نحصل على نتائج غير شافية ، و الوضع نفسه ينطبق على علم الاجتماع و بشكل أقل على الطب .
و بالعودة إلى موضوعنا ، فان تركيزي هنا هو على المثاليين و بالأخص الذين يعتنقون أيديولوجيات ما ورائية .
في البداية هل الحياة في هذا العالم مجرد وهم ؟ أو هل هي على الأقل أقرب للوهم منها للحقيقة ؟
الجواب بالنسبة للكثيرين : نعم ، فلماذا ؟
و جودنا في هذه الحياة سريع التغير فمن عمر افتراضي يبلغ سبعين سنة نتحكم بثواني معدودة فكل الزمن الذي انقضى حتى لحظة وجودنا الحاضر أصبح تماما خارج عن سيطرتنا و العالم بأسره عاجز عن تغيير إي تفصيل فيه مهما صغر ، دعنا نفكر في المسألة الآتية : ما أن تفعل شيء ما بطريقة خاطئة لمرة واحدة حتى تلزمك نتائجه طوال حياتك و تصبح عاجز تماما عن فعل أي شيء حيال ذلك ، حتى لو لم تقصد الخطأ ، تخيل جنديا يفاجأ بزول ( شخص غير واضح المعالم ) في الليل يتقدم نحوه ، و لا يخطر بباله سوى خاطر وحيد هو أن هذا عدو ، و في اللحظة التي يضغط إصبعه الزناد يتعرف على شخص صديقه أو رئيسه . من غير الممكن لهذا الجندي و لو استعان بقوى العالم جميعها إعادة الزمن للحظات و بالتالي هو يتحمل النتائج المادية و المعنوية و النفسية لتصرفه هذا طوال حياته .
هذا بالنسبة للماضي أما بالنسبة للمستقبل فان الإنسان عاجز تماما عن أن يضمن فيه أي شيء ، هو غير قادر على أن يكون متأكدا من أي تفصيل ، نام الناس إحدى ليالي صيف عام 1939 و أفاقوا على عالم فقد عقله و لم تنتهي حفلة الجنون المسماة بالحرب العالمية الثانية إلا وقد تغير كل شيء ، و بالنسبة لشاب من إحدى الدول المشاركة في هذه الحرب - و لتكن مثلا الولايات المتحدة الأميركية كونها بدت بعيدة و آمنة في بداية الحرب – هذا الشاب الذي كان لديه كما هائلا من الأحلام في ربيع عام 1939 ، من الممكن أن تكون قد ذهبت أحلامه أدراج الرياح كما حدث للكثير من الشباب ، هذا إن لم تكن حياته نفسها قد ضاعت ، و إذا فكرت بشاب مماثل و لكن من الاتحاد السوفييتي و الذي هو الآخر كان يبدو منيعا و بعيدا عن الحرب في البداية لكان احتمال ضياع أحلام شاب ما أو حياته أكبر بكثير ، إذا ما تذكرنا أن خمسة و عشرون مليون سوفيتيا ماتوا في هذه الحرب ( أكثر من عُشر السكان) ، و الأدهى من ذلك أنه لا الأميركي العادي و لا السوفييتي العادي له أدنى ذنب في ما حدث.
أما العامل الحاسم في كون العالم وهماً : فهو الموت ، فإذا كان العاملين السابقين ظرفيين بمعنى أنك إذا كنت محظوظا يمكنك أن لا تتعرض لحوادث مماثلة ، فان هذا العامل قطعي و لا يشك فيه أحد . و الشخص المادي قادر إلى حد بعيد على تجاهل الموت ، فهو لا يجد وقتا ليفكر في أي شيء ، و إذا وجده فلديه كم مخيف من المشاغل و المشاريع و المشاكل العملية التي تحتاج للحل و بالتالي للتفكير في حل لها . و لكن المثالي بطبعه غير قادر على نزع الأفكار الكلية من ذهنه ، لأن همه الرئيسي موجه دائما نحو كيفية جعل العالم الذي يبدو مكانا غير جيد ، كيفية جعله أو تحويله إلى مكان جيد مما يعني رغبة عارمة في التغيير و شعورا مستمرا بالزمن و بالتالي فالحياة و الموت هما ركيزة أساسية لتفكيره .
ما هي قيمة الحياة إذا كانت ستنتهي يوما و كأنها لم تكن ، إذا كان كل حي سيصبح نسيا منسيا حتى من نسله الذي كان سبب وجودهم في هذا العالم ؟ قد لا يراود هذا الشعور الأحداث في صباهم ، و لكن الكهول الذين ينظرون إلى نصف قرن من الزمن أو أكثر يمتد وراءهم و قد انقضى كأنه لحظة مرت و انتهت ، يعرفون هذا الشعور جيداً ، بالطبع من يجد منهم متسعا ليفكر .
من المفيد أـن أذكر هنا أن أحد أهم صفات الحياة الممتلئة بالعمل ، و حياة البداوة و التنقل و المغامرة ، أنها تصرف تفكير الناس بشكل اضطراري لشؤون بقائهم و حياتهم المادية و بالتاي لا تترك لهم مجالا للأفكار الأيديولوجية المعقدة ؛ التي ربما تكون ضارة ، حتى أيديولوجيات هؤلاء الناس إن وّجدت تكون بسيطة . فعندما يُرهق الناس تحت ضغط العمل و يحققون القليل يتجهون إلى تفكير نظري عنفي أو استسلامي ( و ما أقرب الضد من ضده) ، بينما عندما يحيا الناس حياة ترف و فراغ فإنهم يفكرون بشتى أصناف الأفكار ، التي كثير منها مجرد ترف فكري يؤخر و لا يقدم ، و عندما يعيش الناس حياة ممتلئة و منتجة في نفس الوقت يصبحون عملانيين ، و لا بد من الاعتراف أن التنظير الزائد عن الحد يؤدي إلى بلبلة و تشتيت تعيق تحقيق أي هدف ، مرة ثانية تبدو الوسطية كأنها تكاد تكون القيمة الوحيدة الجيدة دائما (أفردت لهذا الموضوع بحثا خاصا ).
و بالعودة إلى موضوعنا ،كم من أجدادنا نعرف ؟ بالنسبة لي فأنا أعرف اسم والد جدي و لا أعرف شيئا عن والدته و بعد ذلك لا أعرف أي شيء عن أسلافي أما بالنسبة لجدتي فأنا حتى لا أعرف اسم أبيها و لا أمها ، لقد ضاعوا في النسيان إلى الأبد كأن لم يأتوا إلى هذا العالم ، و هذا هو مصير بلايين البشر ، أ ليست إذاً هذه الحياة مجرد وهم ؟
إذا كانت الحياة و هم ، فان الأيديولوجية هي بالضبط ذلك الوهم المضاد الذي يحول الحياة (الوهم) إلى حقيقة.
بمعنى أننا إذا سلمنا أن الحياة وهم أو أقرب إلى الوهم (و هذا ما يُسلم به الكثيرون ) و إذا قلنا بأن الأيديولوجية هي أفكار وهمية بمعنى غير واقعية (و هذا ما يقوله أيضا كثير من الناس) ، يمكننا أن نصوغ المسألة بالشكل التالي : الأيديولوجية هي عملية تَوَهُم أن هذه الحياة الوهمية هي شيء حقيقي .
طبعا المسألة تأخذ صياغات أخرى فالمثاليون الماديين (غير الماورائيين) لا يعتقدون أن الحياة وهم و لكنهم يعتقدون أنها يمكن أن تصبح مثالية و هذا الوهم يحتاج إلى أيديولوجية وهمية لجعله حقيقة .
تنطبق قاعدة أن محصلة تفاعل قضيتين أو مسألتين سالبتين هو قضية أو مسألة ايجابية على قضايا كثيرة ، فالاضطهاد الذي هو عملية سلبية يجعل العنف الذي هو عملية سلبية أيضا ، يجعله يبدو عملية ايجابية ، و الحاجة ( العوز) التي هي شيء سلبي ، تحول الكد و التعب و الذي هو الآخر سلبي ، إلى قيمة تبدو ايجابية هي العمل أو الإنتاج ، فالجهد الذي لا يلبي حاجة للإنسان ، سواء كانت هذه الحاجة مادية أو معنوية ، ليس قيمة ايجابية .
من المهم التركيز على عبارة – يبدو – فعند هذه العبارة تتفرع السيكولوجية الإنسانية إلى فرعين ، فرع متفائل ( معظم الماديين) و آخر متشائم ( معظم المثاليين) : الأول إما هو لا يفكر بكل مقدمات هذه القضية و يتعامل فقط مع نتيجتها النهائية على أنها شيء ايجابي و من خلال ذلك ينظر إلى مجمل العالم على أنه ايجابي ، أو هو يعتبر أن محصلة تفاعل السالب مع السالب هو أمر موجب فعلا و ليس فقط يبدو كذلك ، بينما يعتبر المتشائم أن الأمور غير قابلة للتحول في جوهرها و هي تظل سالبة و كل ما في الأمر أنها تبدو ايجابية .
قد يفسر هذا تمسك شريحة كبيرة من الناس بالأيديولوجية رغم التطور العلمي الكبير الذي حققه العلم و الذي لا يدعم ، بل هو يناقض جميع الأيديولوجيات المعروفة ، زد على ذلك أن المجتمعات المأدلجة باعتدال و المحافظة باعتدال أكثر نجاحا من المجتمعات الأكثر تحررا و ليبرالية ، ففي أوربا الشمالية الغربية ( المنطقة التي انطلقت منها الثورة الصناعية و عملية التحديث ) الانكليز أكثر الشعوب محافظة و أنجحهم ، الأمريكيون أكثر الشعوب الغربية محافظة و بنفس الوقت أنجحهم و في أميركا نفسها يُشكل الجنوب الأميركي الأشد محافظة مركز الثقل في اقتصاد و سياسة البلاد ، بالطبع أنا هنا أتحدث عن النجاح المادي الذي يصنع قوة الأمة في النهاية ، و بالطبع فأنا لا أعني مطلقا محافظة من النوع العربي فهذه ليست محافظة بل تخلفا ، و مرة أخرى يمكن القول أن قاعدة أن خير الأمور أوسطها تنطبق هنا.
أنا أعتقد أن الأيديولوجيات كلها بعيدة عن الصواب و بالتالي هي أقرب للوهم ، و كمثل ذلك تبدو الحياة ؛ تبدو أقرب إلى الوهم من الحقيقة ، و بالتالي فان مهمة الأيديولوجية هي صبغ وهم الحياة بلون الحقيقة . يبدو لي أنه لا يمكن إثبات شيء في هذا العالم بشكل قطعي و بالتالي لا يمكن نفيه ، ذلك أن النفي هو إثبات العكس (النقيض) ، و بالتالي فان ترك مطلق الحرية للبشر في أفكارهم و تصرفاتهم لأقصى حد ممكن هو الحل الوحيد المعقول . و حدود هذه الإمكانية تتوقف فقط على تناقض حريات البشر مع بعضهم البعض .
الإنسان العادي البسيط ليس غبيا بل هو في كثير من الأحيان أشد ذكاء منا نحن المثقفين ، و قد تكون هذه إحدى أهم نقاط ضعفنا نحن المثقفين العرب (الغالبية و ليس الكل ) ، لا أزال أذكر ما قالته لي والدة زوجتي السابقة يوما ، و هي امرأة متدينة و ذكية ، لقد قالت لي بعبارات بسيطة ما يمكنني صياغته بكل دقة كالتالي : ليس مهما ما هو صحيح و ما هو خاطئ فلسفيا ، بل المهم كيف تعيش بسعادة في هذا العالم ، في ذلك الوقت لم أهتم لهذا الكلام بل اعتبرته عديم الجدوى ، و بعد نحو خمسة عشر عاما من تلك الواقعة أدركت جدوى كون بلايين البشر يتشبثون بأيديولوجياتهم رغم أنف الفلسفة و العلم .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى